اوراق مختارة

هل انتهت الحرب الأهلية في لبنان؟!..

post-img

وسام مصطفى (سفير الشمال)
    
“تنذكر وما تنعاد” عبارة تلازم ذكرى اندلاع ما سمّي الحرب الأهلية في لبنان في 13 نيسان 1975. حرب توقفت ميدانياً بعد نحو 15 عاماً من اقتتال داخلي ارتدى طابعاً مذهبياً وطائفياً ومناطقياً وقضى فيه أكثر من 120 ألف ضحية حسب الأرقام المعلنة فضلاً عن الدمار الشامل عند مناطق خطوط التماس، إلى أن قرّرت كل من الرياض ودمشق وضع حد لها، فاستدعتا أمراء الحرب والسياسة اللبنانيين إلى مدينة الطائف ليخوضوا اجتماعات ماراتونية دامت قرابة ثلاثة أسابيع تم خلالها نبش “الخمير والفطير” إلى أن تم إقرار اتفاق الطائف في 22 تشرين الأول 1989. 

انتهت الحرب عسكرياً وسكت الرصاص وهدير المدافع وفُتحت المعابر الجغرافية وانطلق لبنان في عهد جديد أريد له أن يكون فاتحة للجمهورية الثانية، ولكنها لم تهدأ في النفوس ولم تنتهِ في النوايا والترصّدات وما تزال مستمرة بأشكال مختلفة وبمستويات أكثر عنفاً من الرصاص والمدافع.

انتهت الحرب نتيجة توافق سوري – سعودي ورضا أمريكي – أوروبي – سوفياتي، أي أن وقفها جاء بقرار عربي – دولي بعد أن بانت عبثية استمرارها سوى أنها نجحت في إضعاف لبنان الدولة بسلطته ومؤسساته وأجهزته الرسمية وضرب مقوّمات استمراره ونهوضه وجعله قابلاً لإعادة التدوير وتشكيل نظام جديد، ولعلّ ذلك كان الهدف الأساسي لهذه الحرب بعدما ظهر تحوّل دوافعها من “انتفاضة مسيحية” ضد الوجود الفلسطيني المسلّح إلى مشروع إقامة دولة فيدرالية يكرّس التقسيم المناطقي والطائفي، وهي في الأصل لم تندلع نتيجة حادث لحظوي عابر بل جاءت نتيجة عوامل داخلية وأزمات بنيوية وأسباب تتصل بموقع لبنان الاستراتيجي وأهميته إقليمياً ودولياً، وكانت حادثة “بوسطة عين الرمانة” الشرارة المنتظرة أو المفتعلة للبدء بإخراج لبنان من كونه ساحة خلفية للصراع العربي – الصهيوني إلى ساحة مؤهلة لإنهاء هذا الصراع بعد نفي العنصر الفلسطيني كمحرّك طبيعي لهذا الصراع عن أرضه، وتقزيم حجمه من حالة نضالية مقاومة إلى حالة إنسانية تجد حلاً لها بفرض التوطين.

قدر لبنان في صيغته الفريدة أن يكون متعدّد الطوائف والمذاهب الإسلامية والمسيحية ومتنوّع الثقافات والأعراق، وأن يقع في منطقة مضطربة لم تهدأ منذ ما قبل تكوينه كدولة وإرساء حدوده الحالية كوطن يتوزّع فيه أبناؤه من الطوائف المختلفة في تجمّعات جغرافية محدّدة، ومن الطبيعي أن يتأثر هذا الكيان الوليد بمحيطه اللصيق على حدوده كسوريا وفلسطين وأن يحافظ على موقعه ضمن النسيج العربي العام الممتد من غرب أفريقيا إلى الخليج، ولكن موقعه الاستراتيجي شكّل موقع جذب لمطامع القوى الكبرى لاسيّما بعد زرع الغرب كيان “إسرائيل” الهجين في فلسطين المحتلة، وفي هذه النقطة بالذات بدأت تتمظهر إرهاصات الأزمة الداخلي في لبنان حيث كرّس الاحتلال الفرنسي منذ العام 1920 مكامن الفرقة على أسس طائفية وسياسية، فغلّب النزعة الطائفية لتحكم سائر الشرائح السياسية والاجتماعية في مسار انعزالي نافر، ما أدّى إلى خلق حواجز طبقية – نفسية بين فئات المجتمع، وزرع بذور الشقاق بين مكوّناته وصوّر الصراع التي خاضته المقاومة ضد حكوماته الانتدابية والمتصرّفية على أنه خروج على الحكم والحاكم.

أفرزت “الحرب الأهلية” مجموعة وقائع خطيرة على كيانية لبنان الدولة حافظت على بقائها حتى اليوم بذرائع شتَى وخصوصاً لدى فريق انعزالي رأى في ذريعة الوجود الفلسطيني مطيّة ليحوّل “مقاومته اللبنانية” إلى محاربة المكوّنات الوطنية في حرب إبادة شاملة دون أي أسقف وبلا أي محرّمات، ولئن تذرّع هذا الفريق بـ “لبنانية” الهوية الانتماء – وفق نمطية سعيد عقل – في قتال الوجود السوري في لبنان واعتباره احتلالاً كما الاحتلال الإسرائيلي، فأي عذر لديه في إقامة المتاريس على تماس ما عُرف بالمناطق الشرقية والغربية!؟ وما هي مسوّغاته في قصف المناطق التي لا تخضع لسلطته وارتكاب المجازر بحق المدنيين!؟ وما دوافعه السيادية في تنفيذ عمليات الخطف والتعذيب والقتل على الهوية بمجرد أن يكون صاحبها مسلماً لبنانياً أم غير لبناني!؟ وما ذنب المسيحي الذي لقي المصير نفسه في القتل وتقطيع الأوصال والتذويب بالأسيد لمجرّد أنه خالف الرأي أو رفض مبدأ توحيد “البندقية المسيحية” وعارض مشروع الفدرلة المسخ وتمسّك بهوية لبنان العربية وفق ما ينص عليه الدستور!؟

استقلّ لبنان اسمياً ولكنه كان وما زال مرتهناً في قراره السيادي للخارج. انتهت الحرب وبدأ عهد الطائف لتنتقل عهدته من الفرنسي – الغربي إلى السعودي – العربي، ولئن حمل هذا التحوّل بذور انطلاقة إيجابية جديدة، وأرسى معادلة متوازنة نسبياً على مستوى صناعة القرار السياسي والتوجّهات الوطنية، واستطاع لبنان أن يفرض قوته وحضوره على المسرح الدولي من خلال الانتصار على “إسرائيل” وتحرير معظم أراضيه المحتلة عام 2000 بدعم واحتضان من قبل الدولة برؤسائها وحكوماتها المتعاقبة، وتمكّن من إرساء معادلة الردع على مدى 18 عاماً لم يتجرأ فيها العدو على شن أي حرب جديدة على لبنان، إلا أن الفريق الانعزالي مستمر في نزعته العدائية تجاه الشريك الآخر في الوطن تماهياً مع الأطراف الدولية الداعمة لإسرائيل، ويبقي على توجهات مشاريعه التقسيمية في الداخل تحت عناوين طائفية مقيتة وصلت إلى حد المطالبة بإلغاء طائفة بأمّها وأبيها في أصل وجودها ودورها السياسي والتمثيلي، ولم يخجل في الجهر باعتماده على “إسرائيل” لتطبيق هذا الهدف الكارثي على استقرار لبنان ومصيره.

لا ينسى منصف مسارعة إقدام العميل سعد حداد بتوجيه إسرائيلي بعيد الاجتياح عام 1982 إلى إعلان “دولة لبنان الجنوبي”، ومسارعة العدو إلى فرض التطبيع الاقتصادي والاجتماعي بإغراق المناطق الجنوبية المحتلة بالبضائع الإسرائيلية وإلزام الجنوبيين بالتعامل بالشيكل بدل الليرة اللبنانية، كما لا يمكن إغفال مشروع الدولة المسيحية من المدفون إلى نهر الكلب التي ما تزال تدغدغ أحلام الفريق الانعزالي، والطروحات التي كانت وما تزال ترمي إلى تقطيع أوصال الوطن تحت مسمّى الفدرالية وسلخ لبنان من انتمائه العربي، وإذا كان البعض في لبنان ممّن يتغذّى على موائد الفتنة ويراهن على متغيّر إقليمي يخلط الأوراق ويقلب الأوضاع ويستجيب لأمنياته بأنه سيحمله إلى كرسي الحكم، فإنه يغفل أن جعجعة الكثرة والقلّة أو الكميّة والنوعية لم تعد تنتج طحيناً، ويجب أن يقرّ بأن الرهان على الخارج لن يصل بلبنان إلى الاستقرار طالما أن هذا الخارج يضع أمن “إسرائيل” ومصالحها وحمايتها في رأس أولوياته، بل سيأخذ بالوطن إلى حرب أهلية جديدة تودي به إلى التشظي والزوال، ويبقى أن الثابت في القاموس الوطني رفض المنهج التقسيمي والتوحّد خلف الخيار الجامع حفاظاً على لبنان بشقيه المسلم والمسيحي وحرصاً على استقراره ومقوّمات نهضته واستمراره.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد