ماجدة ريا/ كاتبة لبنانية
يد ساجد تمسك بشاهد قبر لمعانه ينبئك بأنّه قبر جديد!
كانت ليلة الجمعة، فهو قد اختار وقتًا متأخّرًا من عصر ذلك اليوم، يريد أن يخلو بنفسه مع صديق الطفولة. ملابسه السوداء على جسمه الرياضي أرخت عليه هيبة ووقارًا فيما أصابع يده تمسك بالشاهد بحنو بالغ كأنّها تحتضنه، ونظراته مثبتة على الكلمات: "الشهيد ملاك"
جاء ليقول له شيئًا ما... ويستعيد بعضًا من أوقات جلوسه معه؛
غامت عيناه وهو ينظر إلى ساعة يده السوداء، تلك اليد التي ما تزال تمسك بالشاهد.
قال له ملاك ذات يوم: "الساعة التي ننتظرها آتية لا ريب فيها، لست أدري من منّا سيسبق الآخر، لكن عندما تتوقف عقاربها سنغادر بسلام."
أتذكر يا صديقي؟! عندما كنا صغارًا كان الوقت يعنيك أيضًا، كنت ترسم ساعة حول معصمك بقلم الحبر، وكنت دائمًا تختاره باللون الأسود، وتقول لي: "ثبّت نظرك عليها، وسترى إنّها تتحرك" .. ونضحك مليًّا.
كنت تربط كلّ شيء بالوقت، وتدمج الوقت بالعمل حتى إنّك قلت لي ذات يوم: "عندما كان جدّي- رحمه الله - يدرس القمح، كان يدور بالمورج المربوط إلى ثيرانه حول البيدر، ويرسم دائرة كبيرة حوله تشبه الساعة. وكان جدّي يلاحق حبّات القمح كي لا تفلت منه أيًا منها، إنّها ساعة حصاد الموسم، ونحن يا صديقي سنصل إلى الساعة التي نجني فيها حصاد ما زرعنا."
لحظات العمر تمرّ سريعًا، وما تزال تلك الألعاب تدور في مخيلتي، كنّا نشعر بسعادة عارمة عندما كان الواحد منا يمسك بعامود الحديد الذي يحمل السقف في ملعب المدرسة وندور حوله إلى حد الدوخان... كم لعبنا، وكم ضحكنا... إلى أن بلغ بنا المطاف الرحلة الأخيرة التي جمعتنا.. يومها كانت التعليمات أن نلتفّ حول العدو ويكون سيرنا عكس عقارب الساعة، لكنّ ساعتك لم تمهلك، وقضيت نحبك في معركة الشرف والإباء، ونحن ما نزال ننتظر.."
جئت أخبرك يا صديقي: "إطمئن، نم قرير العين، لقد انتصرنا عليهم في ذلك النزال، وتركانهم بين قتيل وجريح. وأنا يا صديقي ما زلت أنتظر.."
ركع عند الضريح، وأخذ يرتّل القرآن بصوت شجي سالت معه دموعه، فأبكى معه حجارة المقبرة، وإذا بصوت يتناهى إلى مسامعه كأنّه يناديه من مكان بعيد، وأحسّ بيد على كتفه ترفعه، فوقعت عيناه المغرورقتان بدموع الخشوع على رفيق عمره باقر، ومعه أحمد، وهو يقول له:
= "كنت أعرف أنني سأجدك هنا"
فاحتضنه وربّت على كتفه، وسمعه يقول:
"هيا بنا، حان موعد الإنطلاق، لقد أزفت الساعة".
وغادرا باتجاه الزمن الصحيح.