نجوى الموسوي/ كاتبة لبنانية
ارتفعت الآه مع شفق الغروب. وأنا أترجّى أن ترحمني الدمعةُ من دون جدوى.
قبل حينٍ باغتني غثيان، وانتابني الارتجاف. أعراض الحرارة بدت واضحة. جاء ذلك بعد أكثر من سبع زيارات إلى بيتي شبه المدمّر. بدت تائهة تماما معالمُ الشقة التي سكنتها منذ ثلاثين سنة.
سبع زيارات والأبدان جاهدة. والأعصاب مشدودة. لم أشعر أنني تجاوزت العقد الخامس إلا الآن. ودارت رحى حرب من نوع آخر. صراع مع قسوة المناخ ووجع الفقد. نجرف أكوام الحصى من داخل الجدران. نرمي بقايا الحيطان والزجاج المكسور والأثاث المخلوط بأكوام التربة. ونتألم لكل ما هشمه تدمير القصف.
سبع زيارات ونحن نحاول إنقاذ بعضٍ من ذكرى. ونجربُ سحبَ بعضًا من عمرنا في صورة أو ثوبٍ أو هديةٍ من عزيز أو كتاب صادقناه سنوات. ولا ننسى ارتشاف القهوة.
ولكن ما الذي حصل فجأة حتى اجتاحتني أعراض المرض؟
ربما هو تشنج في الأمعاء. حملتُ كيسًا. خفت أن تستدعي حالي الطوارئ في حين أن ألف مهمة ما تزال أمامي. قبل قليل وقفتُ مملوءة بالرماد والغبار ورائحة أكوام الردم الموحِل. أطللتُ من خلف المتبقّي من جدار الشرفة المهدم.
نظرتُ إلى ركام مبنى الجيران. رأيته يشبه علبة من "كرتون". سقوفه مطبقة فوق بعضها. رأيت بمحاذاته بقايا من بيتي ومن بيوت عائلات جاراتي. رأيت ما تبقى من أخشاب خزائن أطفالنا وألعابهم. رأيت مكتبات المنازل المثقوبة، والتي لفظَت أحشاءها. رأيت "أشلاف" الحديد لم تصدأ بعد. رأيت نفايات الشقق التي تركها أهلها صدمةً حين هجّرهم العدوان. وانقلبت معدتي.
لماذا لا تظهر أي مؤسسة من مؤسسات الحكومة لتجرف هذا الوجع عن وجه بيروت؟ لماذا لا يردّون عن الناس عذابَ رؤية جنى العمر مرميّا مثل أكياس القمامة؟ أين من يواري هذه الجثامين اليابسة؟
ألا يعلمون أن الحجارة هي أيضًا جثامين غالية!؟
الآن أحاول نسيان غثياني. ثقل يحاول أن يُحني أكتافي؛ "أليست هذه الحرب قد انضجتنا وكبّرتنا دهورا؟".
أحاول ان أستقيم في مشيتي وتأبى قطرة واحدة أن تلمع في عيني.
قبل قليل خرجتُ من بنايتنا المتضرّرة. تسرّب اختلالُ التوازن وانخفضت الدوخة قليلًا.
خرجتُ وإذا بي ألتقي بجارتي سمر. نعم إنها سمر التي راح بيتها، راح كُليا. على بُعد أمتار قليلة وأوجاع كثيرة، لم نلمح منه إلا قطعة من "بيانو" طالما أطربنا ولدها بالعزف عليه. وعصف بي الخجل بحضرة جارتي. خجلٌ لأن أضراري لا تساوي شيئا أمام أضرارها. لقد احترق بيتها كله. وقد أصيبت ابنتها أثناء النزوح بالربو ونقص الأوكسجين.
أخبرتني ما أخبرتني. أردت أن أواسيها بفقدها. أردت الكلام عن عوائل الشهداء الذين قدّموا كل حياتهم. ونحن لسنا شيئا أمامهم. أردت التمثل بمن تصبروا على فقد أبصارهم وكفوفهم بعظيم الإرادة. أردت أن أذكرها بعوائل الشهداء المثال بالصبر والأضاحي. ولكنها سبقتني وعقّبت: " كل هذا يشهد أننا لم نسكت. ولن تمسنا جهنم. قدمنا شخصيا على الأقل ما يواسي المجزرين في غزة".
قلت: "على كل حال الحمد لله على السلامة".
فأجابت: "أي سلامة؟"
غصّت وغصصتُ وصمَتنا.
وفوجئتُ بإكمال عبارتها:
"أقصد ليتها راحت سلامتنا وأرزاقنا وبقي سيّدنا الحبيب".
فورا حضرتني مقارنة؛ قرأت مرة قصة سمّى فيها الكاتبُ الكيان الغاصب "جارتنا". للمفارقة كان كاتبا فلسطينيا لم يمكث اسمه في الذاكرة. القصة حكت عن "صهيونية" استولت على منزل في حيّ مقدسي. كان مواطن أصلي جارا لذلك المنزل، ولكنه قرر أن يصبر كلما كسر أولاد جارته زجاجَ شقته بالطابة.
" أوف".. قلت لنفسي: "أهذه جارة وجارة ذلك الكاتب جارة؟".
استدرتُ ومشيتُ. ثم رفعت رأسي نحو السماء. أستسقي دمعةً تخفّف عني كمن يستسقي المطر في قلب صحراء في منتصف الصيف. وارتفعت الآه. وأنا أترجّى أن ترحمني الدمعة من دون جدوى.