اوراق مختارة

حديث الإستراتيجية الدفاعية بين المماحكة والجدّ

post-img

علي عبادي (العهد)

سؤال يتردد منذ سنوات، ويبقى أسير تجاذبات إعلامية وسياسية تفتقر للجدية أحياناً بسبب التباعد القائم حول النظرة إلى العدو الإسرائيلي ومستقبل ما يسمى "مسيرة السلام" التي ترعاها الإدارة الأميركية لتطبيع وجود الكيان المؤقت في المنطقة.  

الآراء في هذا الصدد منقسمة: 

فريق يؤيد إنتاج توافق وطني على إستراتيجية دفاعية لحماية لبنان من الخطر الصهيوني بوصفه تهديداً حقيقياً. 

فريق آخر لا يرى ضرورة لها بالمرّة، لأنه يعتبر أن الدفاع يعني دفع أثمان، وهو يفضّل أن لا يضحّي ولا يدفع شيئاً، وقد لا يمانع - في أقصى صور التطرف والسلبية- أن تحتل إسرائيل نصف البلد وتحكم كلَّ البلد بمعادلاتها وهيمنتها الجوية والأمنية، على أن يقع أي نوع من المواجهة مع العدو الإسرائيلي. وتبعاً لذلك، فإن إنهاء المقاومة أو نزع سلاحها هو الترجمة الفضلى من وجهة نظر هذا الفريق لمفهوم الدفاع الوطني. السؤال: من يدافع عن لبنان؟ يقول بعضهم: الجيش، وبعضهم يقول صراحة: لا عهد لنا بالحرب، نترك الأمر للعلاقات مع أمريكا والمجتمع الدولي!.   
وعلى ذلك، ثمة آراء مختلفة طُرحت في السنوات الماضية: بعضها يختصر النقاش بالدعوة الى إنهاء مهمة المقاومة ودمج عناصرها في الجيش كلياً. 

بعض آخر يطرح الموضوع من وجهة نظر مختلفة قليلاً، تقوم على ضمّ شباب المقاومة إلى الجيش وتشكيل لواء خاص بهم يأتمر بأوامر قيادة الجيش. 

بعض ثالث يرى إمكانية بناء إستراتيجية موحدة تقوم على تشكيل قيادة عسكرية واحدة تنسق بين الجيش والمقاومة، مع الحفاظ على بنية كل منهما، وإمكانية توسيع إطار المقاومة لتشمل قوى لبنانية أخرى. 

خيارات ومآلات 

لكل من هذه الخيارات دوافع ومآلات مختلفة: 

طُرحت فكرة دمج عناصر المقاومة في الجيش من زاويتين: زاوية تقنية عسكرية تتمثل في الاستفادة من خبرات رجال المقاومة لتعزيز قدرات الجيش البشرية ومدّها بالعناصر الكفوءة ذات التجربة، وزاوية أخرى اجتماعية: التعويض على المقاومين بإيجاد وظائف لهم في المؤسسة العسكرية الرسمية بدلاً من الوظائف التي سيفقدونها عند "حلّ" المقاومة. والواقع أن هذا الطرح قد لا يصمد أمام أقل نقاش: فالمقاومة ليست مجرد وظيفة بالنسبة للمنتسبين إليها، ذلك أنها رسالة ذات أهداف سامية تستحق التضحية والاستشهاد وهي رصيد تراكمي يمتد عبر أجيال للوصول إلى تحرير الأرض والتخلص من هيمنة المحتل الصهيوني. ثم إن المقاومين يعملون في إطار ثقافي وإيماني وتعبوي وقيادي يدركون من خلاله أن تعبهم لن يذهب سدى في الألاعيب أو الحسابات السياسية المرتهنة. كما أن الداعين إلى الدمج يعرفون ولا شك أن الحسابات الطائفية لن تسمح بانتساب هذا العدد من المقاومين إلى مؤسسة الجيش بدعوى الخشية من فقدان التوازن الطائفي في الجيش، أو بدعوى أن عناصر المقاومة "مؤدلجون" ويمكن أن يكون ولاؤهم لغير المؤسسة العسكرية، إلى غير ذلك من الدعاوى التي ستتصدى لمثل هذا الخيار. ونذكر جميعاً، أن هناك من أوقف قبل سنوات توظيف الناجحين في المباراة التي نظمها مجلس الخدمة المدنية للمترشحين لوظيفة المراقبين الجويين في مطار بيروت الدولي وحراس الأحراج بدعوى وجود اختلال طائفي بين الناجحين، فهل ستختلف نظرتهم إلى دمج عناصر المقاومة في جسم المؤسسة العسكرية؟  

أما خيار تشكيل لواء او أكثر من عناصر المقاومة وإلحاقهم بالمؤسسة العسكرية فيهدف إلى توفير قدر من الخصوصية لهم داخل الجيش. لكن يبدو قبول هذا الخيار أكثر صعوبة نظراً للحسابات الواردة في الخيار السابق (الدمج)، وأيضاً لأن الولايات المتحدة التي "تمون" على بعض توجّهات المؤسسة العسكرية ستعتبر أي تشكيل من هذا النوع تكريساً لفكرة المقاومة وستطالب عاجلاً او آجلاً بحلّه. فضلاً عن أن هذا الخيار لا يلقى قبولاً من أوساط سياسية تريد إنهاء أي أثر للمقاومة في لبنان. 

الخيار الثالث المتمثل في بناء إستراتيجية موحدة تقوم على تشكيل قيادة عسكرية مشتركة أو غرفة تنسيق بين الجيش والمقاومة، مع الحفاظ على بنية كل منهما، يتيح للبنان تكوين قوة عسكرية معتبرة. والإيجابية الكبرى في هذا الخيار هي احتفاظ القوات العسكرية وشبه العسكرية بخصوصياتها التنظيمية، واحتفاظ المقاومة بمرونتها في مجالات الثقافة العقائدية والحركة والتخفي عن عين العدو. وتوجد ميزة أخرى للمقاومة في هذا الخيار، حيث تتمتع كقوة شعبية بدوافع معنوية وحافزية للقتال والتضحية بعيداً نسبياً عن الروح الوظيفية التي تسيطر عادة على العسكر، إضافة الى أن بنيتها وتكتيكاتها في اعتماد "حرب العصابات" تجعلها مؤهلة لتحمل مختلف ألوان الضغوط الميدانية، بينما يقاتل الجيش كوحدات نظامية تتقيد بالأوامر في الدفاع والهجوم والانسحاب. 

 ويوجد مثل هذا التنوع في دول أخرى تسمح بتشكيلات عسكرية محلية وظيفتها الدفاع عن الأمن الوطني، ويمكن حتى أن تضطلع بمهام خارج الوطن، كما هو الحال مع الحرس الوطني في الولايات المتحدة، مع فوارق بين التجربتين. ونعرف مسبقاً أن هناك من يرفض هذا الخيار لأسباب سياسية وطائفية ليست بعيدة عما ورد في الاعتراض على التصورين الأول والثاني. لكن ينبغي ملاحظة أن كل دولة لها تجربتها الخاصة وترتيبها الخاص، بحيث لا يمكن إسقاط نموذج محدد على كل بلد، وهذا يخضع للتوافق بما يلبي المصالح العليا. 

النقاش بعيداً عن الإعلام

إذاً، باب التنظير في شأن المقاومة مفتوح، وكيف يجب أن تكون، وهل يجب أن تكون أصلاً. وهذا مألوف في بلد متعدد المشارب والاتجاهات والأهواء مثل لبنان. لكن ليس من الطبيعي أن يتم هذا النقاش في الهواء الطلق بينما يتعرض البلد لاعتداءات "إسرائيلية" يومية في البر والجو، وتُحتل جزء من أراضيه ويُمنع قسم من شعبه من الوصول إلى أراضيهم أو إعادة إعمار ما دُمر من منازلهم.  

وفي وقت يجري الجدل في الإعلام وعلى مواقع التوصل الاجتماعي بصورة مماحكة وتسجيل نقاط بعيدة عن أصول الحوار، هناك تبادل جدي للأفكار بشأن ضرورة إنتاج إستراتيجية دفاعية. وهنا، يوجد توافق على عدم مناقشتها في الإعلام، فكل ما يُتداول في الإعلام يبقى في الإعلام ويمكن أن يكون سبباً لإطلاق تأويلات ولتباعدٍ بين الأطراف المعنية. وسبق أن عرض حزب الله تصوره للإستراتيجية الدفاعية على طاولة حوار وطني في أواسط العام 2006، ولم يقدم الفريق المعترض على المقاومة ملاحظات عليها، كما لم يقدم تصوراً بديلاً، واستنتج الأمين العام الشهيد السيد حسن نصر الله في خطاب له في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 أن "الفريق الآخر ليس جدياً في بحث إستراتيجية وطنية للدفاع"، مضيفاً أن "هذا الوطن لنا جميعاً، والدفاع عن لبنان مسؤولية جميع أبنائه، وهناك حاجة وطنية جدية لوضع إستراتيجية دفاع وطنية". 

وفي ضوء التحديات الكبرى التي تواجه لبنان والتغيرات في محيطه، يتوجب الأخذ في الاعتبار أن حاجات لبنان الدفاعية تعاظمت واختلفت عما كان من قبل، وقد يتوجب على الجيش أن يقاتل على أكثر من جبهة في آن واحد. ولهذا، فإن التضحية بالمقاومة وتجربتها الدفاعية الفريدة ستؤدي إلى ضعف مناعة لبنان وخسارة لن يمكن تعويضها بسهولة في الساعات الحالكة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد