علي عواد/جريدة الأخبار
في زمن تتهاوى فيه كبريات المؤسسات الإعلامية تحت ضربات الأزمات المالية والتحولات الرقمية، اختارت «نيويورك تايمز» مساراً غير مألوف للبقاء. لا مبالغة في القول إنّ الصحيفة الأشهر في العالم لم تنجُ من الإفلاس بفضل تقاريرها السياسية أو تحقيقاتها الاستقصائية، لكن بفضل قسم الألعاب. هذه الجملة التي بدت قبل سنوات دعابة، صارت اليوم واقعاً: «نيويورك تايمز» شركة ألعاب تملك صحيفة جانبية.
تبدأ الحكاية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، عندما نشر المبرمج البريطاني جوش واردل لعبة كلمات بسيطة سماها Wordle، في إشارة إلى اسمه. في البداية، لم يتجاوز عدد مستخدمي اللعبة 90 شخصاً. ولكن في أسابيع قليلة، تحوّلت إلى ظاهرة، مع بلوغ عدد اللاعبين اليوميين أكثر من مليوني مستخدم بحلول بداية عام 2022. وحين قررت «نيويورك تايمز» شراء اللعبة مقابل مبلغ يُعد منخفضاً (بضعة ملايين)، لم يفهم كثيرون مغزى هذه الصفقة. لكن ما بدا مخاطرة في حينه، تبيّن لاحقاً أنه أحد أذكى استثمارات المؤسسة.
في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات الإعلامية الأخرى تُسرّح موظفيها، وتُقلّص ميزانياتها، كانت «نيويورك تايمز» تحقق أرباحاً قياسية. في الربع الأول من عام 2024، ارتفعت أرباحها الصافية من 22 إلى 40 مليون دولار. ورغم تراجع عائدات الإعلانات، ارتفعت الإيرادات الكلية بقرابة 33 مليون دولار. وما تغيّر في بنية المؤسسة لم يكن شراء لعبة واحدة، بل هو فعلياً إستراتيجية جديدة متكاملة: التحوّل من صحيفة إلى منصة خدمات رقمية متعددة، تتضمن الأخبار، والرياضة، والطهو، والتكنولوجيا، والألعاب.
التقرير المالي الأخير أظهر أنّ عدد المشتركين في خدمات «غير الأخبار» مثل الرياضة والطبخ والألعاب ومراجعة المنتجات، «تجاوز للمرة الأولى عدد مشتركي الأخبار». وبلغ عدد مشتركي «نيويورك تايمز» أكثر من 11 مليون مشترك، بينهم أكثر من خمسة ملايين مشترك في خدمات متعددة. نمو أتى من تنويع المنتجات لا من توسّع في التغطية الصحافية.
تجاوز عدد المشتركين من أجل الألعاب والترفيه مشتركي الأخبار
تحت هذا النموذج الجديد، صارت الصحيفة العريقة تُباع على أنها حزمة خدمات ترفيهية وثقافية، لا منصة للأخبار فقط. وتحولت Wordle من لعبة إلى أداة جذب رئيسية لإبقاء المشتركين، خصوصاً مع إطلاق ميزات جديدة تسمح للمستخدمين بمشاركة نتائجهم والتنافس مع الأصدقاء والمشاهير على حد سواء. وعبر هذه التفاعلية، بنت «نيويورك تايمز» مجتمعاً من «مدمني ألعاب الألغاز»، يتجدّد تفاعلهم يومياً، ويعزّز ارتباطهم بالمنصة.
في هذا السياق، يمكن اعتبار النموذج الذي اعتمدته الصحيفة نوعاً من «التمويل الشعبي غير المباشر» للصحافة. فالربح الناتج من الاشتراكات في الألعاب والطبخ والتقييمات، هو ما يموّل تحقيقات السياسة العالمية والتقارير المعمّقة. أو كما عبّر أحد المتابعين بسخرية لطيفة: «لقد انتقلنا من نموذج الإعلام المموّل بالإعلانات إلى الإعلام المموّل بالسودوكو».
المفارقة أنّ هذا النموذج، الذي قد يبدو أقل «نبلاً» من الصحافة الحرة، ربما يكون أكثر استدامةً. فالإعلانات كانت تخضع لمزاج السوق وتقلّبات الخوارزميات. أما اللاعب الذي يعود يومياً لحلّ لغز الكلمات، فهو أكثر ولاءً من قارئ عابر لعنوان مثير.
ثم، فعلاً، هل لا يزال هناك «قرّاء» بالمعنى التقليدي القديم؟ من يجلسون خلف الشاشات اليوم يُطلق عليهم اسم «مستخدمين». في لحظة، يدخلون موقع صحيفة، وفي اللحظة التالية يؤدّون مهمات عملهم، أو يستمعون إلى الموسيقى، أو يتنقّلون بين منصّات التواصل. المعرفة صارت متاحة بأشكال لم يكن ممكناً تخيّلها في السابق. لكن فكرة «نيويورك تايمز» تتجاوز ذلك.
مع صعود شركات التكنولوجيا وتمركز البيانات بيد حفنة من الشركات المعروفة بـ«الخمسة الكبار» (آبل، أمازون، مايكروسوفت، غوغل، وميتا)، تغيّر المشهد تماماً. هذه الشركات أصبحت حرّاس بوابة الإنترنت، وتتحكّم بالشبكة بدرجة كبيرة. عندما قررت «ميتا» قبل عامين تقليص نسبة ظهور روابط الأخبار بنسبة 50 في المئة لمصلحة محتوى الفيديو، في محاولة لمنافسة تيك توك، تراجع انتشار المحتوى الصحافي بشكل كبير، ما أثّر مباشرة في عائدات الإعلانات للصحف. في هذا السياق، يصبح تحوّل «نيويورك تايمز» إلى منصة بحد ذاتها خطوة إستراتيجية منحتها هامشاً أوسع للتحرّر من هيمنة شركات التكنولوجيا، واستعادة جزء من السيطرة على علاقة المحتوى بالجمهور.