رامي أسوم (جريدة الأخبار)
أقرّ المجلس النيابي اللبناني أواخر عام 2023 قانون «إنشاء نظام التقاعد والحماية الاجتماعية» الذي يستبدل نظام تعويض نهاية الخدمة، إلزامياً لكل من يدخل العمل لأول مرّة بعد تاريخ وضع النظام موضع التنفيذ، ولسائر المضمونين الذين لم يبلغوا سن الـ 49 عاماً، بالتاريخ نفسه.
وهناك معطيات تشير إلى أن الحكومة تعكف حالياً على دراسة القانون، لإصدار المراسيم التطبيقية الخاصة به لتطبيقه في أقرب وقت. لكن القانون يترك مجالاً واسعاً للحكومة لتحديد الكثير من التفاصيل التي أرجئ بتّها في نصّ القانون، في المراسيم التطبيقية.
وربما تكون النقطة المضيئة الوحيدة في القانون أنه يخطو باتجاه مسار الحماية الاجتماعية للعمال في لبنان، كونه يؤمّن الحد الأدنى من الضمانات لشريحة كبيرة من العمال الذين يتقاضون رواتب متدنية جداً (الحدّ الأدنى)، فيصرِف لهم راتباً تقاعدياً بين الـ 55% و80% (حسب سنوات خدمتهم) من الحدّ الأدنى للأجور خلال مدة تقاعدهم، إلا أن باقي مواد القانون تتضمن إجحافاً كبيراً بحقّ باقي المضمونين، وخصوصاً من أصحاب المهارات، ولا سيما الذين تتجاوز رواتبهم المصرَّح عنها، الحدّ الأدنى (قبل الأزمة خصوصاً).
ليس هناك نصّ واضح لطريقة نقل الحقوق المكتسبة للمشتركين في نظام تعويض نهاية الخدمة، إلى نظام التقاعد. ومع أن القانون الجديد يذكر حرفياً أنه يتوجب تصفية رصيد تعويض نهاية الخدمة للمضمون وتحويله إلى الحساب الفردي الافتراضي المتراكم في نظام التقاعد، إلا أنه ينصّ أيضاً على أن المرسوم التطبيقي الذي سيصدر عن الحكومة يجب أن يتضمن «جميع الأحكام الانتقالية المتعلقة بمعالجة وتصفية الحقوق المكتسبة للإجراء»، وهذا ما يفتح الباب واسعاً للالتفاف على حقوق العمال.
وقد أصبح معروفاً أن سحب القانون من أدراج المجلس النيابي وتعديله قبل إقراره عام 2023، جاء فقط ليحلّ مشكلة مبالغ التسوية التي يتوجب على أصحاب العمل دفعها لمصلحة صندوق الضمان.
ولتبسيط الموضوع، فإن من كان يبلغ راتبه 1.5 مليون ليرة قبل الأزمة (أي ألف دولار)، وأصبح راتبه 20 مليوناً بعد الأزمة، مع 20 سنة خدمة، فإن مبلغ التسوية المترتب على صاحب العمل يعادل الفرق (18.5 مليوناً) مضروباً بعدد سنوات الخدمة (20) ليصبح 370 مليون ليرة.
وهذا ما أدى إلى اعتراض الهيئات الاقتصادية على تحميلها وحدها مسؤولية الأزمة المالية، فكان الحلّ السحري في إعادة إحياء نظام التقاعد لإيجاد مخرجٍ يتم عبره قضم حقوق العمال عن طريق الانتقال إلى نظام التقاعد من دون دفع مبالغ التسوية (كما عدلته اللجان النيابية عام 2020).
والواقع، إن إضافة مادةٍ تنصّ صراحةً على تصفية حقوق المضمونين قبل انتقالها إلى نظام التقاعد، حافظ على مكتسباتهم، ما يعني أن حساب العامل، الذي يتحول من النظام السابق إلى الجديد، سيبدأ بمبلغ يساوي عدد سنوات خدمته قبل الانتقال، مضروباً بالراتب الأخير الذي تقاضاه (أي يبدأ الحساب ب 370 مليوناً في المثال المذكور أعلاه)، ثم تتم تغذيته تدريجياً عبر الاشتراكات اللاحقة، وصولاً إلى بلوغ المضمون سنّ التقاعد، ما يحفظ حقوقه الكاملة عن السنوات السابقة بالإضافة إلى اللاحقة.
غير أن إحالة موضوع معالجة تصفية الحقوق المكتسبة إلى المرسوم التطبيقي، لا يمكن فهمها إلا كمحاولةٍ من المشترع لإعطاء الحكومة حقّ تعديل القانون تحت عبارة «تضمين الأحكام الانتقالية» والتي ستنصّ بحسب ما يتم تداوله، على إعطاء أصحاب العمل إمكانية «تقسيط مبالغ التسوية» المترتبة عليهم عبر زيادة نسب اشتراكات صاحب العمل الشهرية لاحقاً.
أي إن حساب نظام التقاعد الافتراضي للمضمون يمكن أن يبدأ تقريباً من الصفر (أو ما تمّ مراكمته من مبالغ ضئيلة بالليرة في ظل نظام التعويض)، ثم يعاد تعويضه شهرياً عما خسره في هذه العملية.
إن هذا الالتفاف على القانون، في حال حصوله، سوف يضيع حقّ المضمون الذي يترك عمله بعد سنواتٍ قليلة، لأن الزيادة على نسبة اشتراك صاحب العمل تحتاج إلى عشرات السنوات لتعويضه عما خسره من مبلغ التسوية، أو سيتم تحميلها لصندوق الضمان.
لكن المشكلة الأكبر هي أن جزءاً كبيراً من المُلزَمين بالانتقال إلى نظام التقاعد (تحت سن الـ 49 عاماً)، لا تتعدّى مدّة خدمتهم في نظام التعويض الـ 20 سنة، وبالتالي كيف ستُحتسب مبالغ التسوية العائدة إليهم؟
علماً أن قانون الضمان الحالي ينصّ صراحةً على احتساب شهر عن كل سنة خدمة (وليس 50% في حال ترك العمل بعد 5 سنوات، وتتزايد تلك النسبة تدريجياً، وصولاً إلى 85% بين 15 و 20 سنة خدمة، لأن ذلك يحصل فقط في حال تركه العمل، وليس في حال استمراره في العمل وانتقاله بين النظامين).
فهل سيفرض المرسوم التطبيقي على أصحاب العمل دفع مبالغ التسوية كاملة دفعةً واحدة عن كل العمال ما دون الـ 49 عاماً للانتقال إلى نظام التقاعد؟ إن تطبيق ذلك يعني ترتيب أحمال كبيرة وفجائية على أصحاب العمل، وبالتالي إن الأخبار الواردة من النقاشات التي تدور بين الحكومة وأصحاب العمل لإصدار المراسيم التطبيقية ترجّح تقسيط تلك المبالغ كما تم شرحه سابقاً، بما يعنيه ذلك من رمي الخسارة المستقبلية إما على العامل أو على صندوق التقاعد في الضمان. في حال إجبار المرسوم التطبيقي، صاحب العمل على دفع مبلغ التسوية، فإن صاحب العمل الذي يتهرب من التصريح عن كامل راتب الأجير، سيستفيد من عملية الانتقال إلى نظام التقاعد (من مبلغ ألف دولار في المثال السابق، لم يعد يصرّح بعد الأزمة إلا عن 20 مليون ليرة) بينما صاحب العمل الذي يلتزم بالقانون، ويصرح عن كامل الراتب، سيكون مضطراً إلى دفع أضعافٍ مضاعفة في تلك الحالة.
ولذا، إن المرسوم التطبيقي يجب أن يلحظ الاعتماد على الراتب المصرّح عنه قبل الأزمة المالية عام 2019 مضروباً بـ60 لاحتساب عملية الانتقال، وذلك يحفظ حق العامل بمكتسباته كما كانت قبل الأزمة.
من أهم ما يلفت النظر في قانون التقاعد أنه يحدّد سقفاً أعلى للاشتراكات كنسبة مئوية من مجموع كسب الأجير (تقسّم بين صاحب العمل والعامل بحسب جدول يحدد نسبة اشتراك كل منهما)، يعادل 4 أضعاف متوسط الأجور المصرّح عنها في لبنان (المادة 54-1). وبحسب المعلومات المتوافرة فإن متوسط الأجور لا يتعدى الـ 400 دولار.
وذلك يعني أيضاً أن من يتقاضى راتباً يساوي 4000 دولار، لن يصرح عنه رب عمله إلا عن أول 1600 دولار. من الواضح أن هذه المادة وضعت أساساً لتخفيف العبء عن صاحب العمل.
وهذا المبدأ (السقف) معتمد في عدد من الدول، ولكن السقوف في تلك الدول أعلى (بالقيمة المطلقة) بكثير من لبنان (مثلاً السقف في بعض الدول الأوروبية يصل إلى 3 أو 4 مرات متوسّط الأجور) والتصريح يحصل على كامل الراتب خلافاً لما هو عليه الحال في لبنان حيث يسجّل تهرّباً على نطاق واسع من أصحاب العمل.
لذا، لا يمكن أن ينطبق على لبنان حيث المتوسط سيظلّ منخفضاً جداً عن المتوسط الفعلي للأجور التي تدفع ولا يصرّح عنها. وبالتالي، فإن الضمانة الأعلى للراتب التقاعدي الذي سيحصل عليه الموظف الذي يتقاضى مثلاً راتب 4 آلاف دولار اليوم، لن تتعدى الـ40% (1.33% عن كل سنة خدمة، على افتراض 30 سنة خدمة، كما ينص القانون الجديد) من سقف الاشتراك الذي يبلغ 1600 دولار (400 دولار مضروبة بـ 4)، أي نحو 640 دولاراً. وهذا المبلغ ينطبق على كل من كان راتبه أعلى من 4 أضعاف المتوسط، مهما بلغ الراتب.
إن القانون بشكله الحالي بدلاً من أن يشجّع عودة اللبنانيين ذوي المهارات إلى وطنهم، سيشكل عاملاً إضافياً لهروب من تبقى منهم في البلد.
القانون ينصّ في مادته الـ 54-3 تحت عنوان «ضمانتا الحدّ الأدنى»، أنه يجري إعادة تقييم وفهرسة (indexation) رواتب المتقاعد بناءً على زيادة متوسط أجور المشتركين (كل المضمونين الذين ما زالوا في الخدمة).
ولحظت أنه يجوز اعتماد مؤشر أسعار الاستهلاك في عملية التقييم، بموجب مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء «عندما تتوافر الشروط الاقتصادية المناسبة»، أي إنه ليس هناك ضمانات قانونية ثابتة للمتقاعدين بتعديل رواتبهم تلقائياً بناء على مؤشر موحّد، وأن رواتب المتقاعدين لن تعدّل بالضرورة وفقاً لمعدّل التضخّم السنوي.
إن طريقة احتساب الراتب التقاعدي للمضمون تستند إلى «عامل التحويل» الذي يتضمن عناصر مثل: العمر بتاريخ التقاعد، الفهرسة المستقبلية المتوقعة، العمر المتوقع... وهو يمكن أن يتخطى الضمانتين المذكورتين آنفاً، لكن ليس هناك ما يضمن ذلك قانوناً، حتى أن تلك النسب ستكون عرضة للتعديل (وبالتالي التخفيض) بموجب مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء.
إن الواقعية العلمية تقتضي الاعتراف بأنه لا يمكن الالتزام بمبالغ أو نسبٍ محدّدة مسبقاً في أنظمة التقاعد، وذلك لكثرة المتغيرات (الديموغرافية، السياسية، الاقتصادية...)، إلا أن آلية الاحتساب يجب أن تكون واضحة منذ البداية ومن بينها عامل التحويل، لا أن يبقى معلقاً على مراسيم تصدرها الحكومة.
أخيراً، وبانتظار المراسيم التطبيقية التي ستصدر عن الحكومة، يجب تذكيرها بأن مهمة الدولة الأساسية هي رعاية مواطنيها وحمايتهم، خصوصاً إن كانت تعتبر نفسها حكومةً إصلاحية تريد النهوض بالاقتصاد بعد أزمة دامت 5 سنوات.
والنهوض بالاقتصاد يتطلب الحفاظ على عناصر الإنتاج مجتمعة، ومن بينها العمال وأصحاب العمل. لذا، إن تأجيل مشكلة التعويضات إلى المستقبل (بتنفيذ نظام التقاعد بمراسيم غير عادلة)، بدلاً من إيجاد حلّ جذري لها، لا ينهض بالاقتصاد في ظل وعي العمال بعدم وجود ضمانات جدية لشيخوختهم.
هذا سيبقى واجب الحكومة، وإن كانت لا تستطيع تحميل أصحاب العمل مسؤولية ضمان شيخوخة عمالهم، فإنها تظل مسؤولة عن حفظ حقوق العمال، ولو اضطرت إلى تمويل ذلك بنفسها. الجميع سيكون بانتظار ما ستصدره من مراسيم، للطعن بها أمام مجلس شورى الدولة في حال لم تكن على المستوى الوطني المطلوب من العدالة والحماية الاجتماعية.