أوراق ثقافية

جو ساكو .. كوميكس الإبادة

post-img

ريما النخل/جريدة الأخبار

جو ساكو (‏مواليد مالطا العام 1960) فنان أشرطة مصوّرة (كوميكس) يحيل اسمه منذ عقود إلى الفن الملتزم المناهض للحروب والمظالم وقهر ‏الشعوب كما في الحالة الفلسطينية ومآسيها المتوالية.

تفتّح وعي الفنان الإنساني والسياسي ‏على القضية الفلسطينية منذ مطلع تسعينيات ‏القرن الماضي، فرسم ‏من وحي رحلاته إلى الأرض المحتلة عددًا ‏من القصص المصوّرة المبنيّة ‏على حكايات رواها له فلسطينيون بين عامَي 1993 و 1995 وجمعها في كتاب «فلسطين» (كتب مقدّمته المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد)، فضلًا عن اهتمامه بحربي العراق والبوسنة، بلوغًا إلى عودته ثانيةً إلى مأساة غزة الإبادية الراهنة والمستمرة، في كتاب شريط مصوّر يحمل عنوان «الحرب على غزة».

أصدر الأخير العام الفائت ووقّعه قبل أيام في «الجامعة الأميركية» في بيروت بنسخته العربية المترجمة (منشورات «مركز رادا ومعتز الصواف ‏لدراسات ‏الشرائط المصوّرة العربية» ــ ‏ترجمة جورج خوري/ جاد) ــ الإشراف ‏الفني وتصميم الغلاف: لينا غيبة ــ ‏تصميم الكتاب ورسم الحروف: ساهير غزاوي ــ مديرة المشروع حوراء كنعان).

«الحرب على غزة» كتاب مصوّر أملته فظائع الإبادة الجارية فصولًا في القطاع المنكوب، لكنه ليس الأول لساكو عن القطاع، إذ أصدر كتابًا مماثلًا في العام 2009 تحت عنوان «هوامش من غزة» روى فيه بالرسوم والنصوص شهادة حيةً، مرئيةً عن المذابح الإسرائيلية التي ترتكب بلا انقطاع ضد شعب غزة منذ مذبحتي خان يونس ورفح في تشرين الثاني (نوفمبر) في العام 1956 واستشهد فيها 386 فلسطينيًا وفقًا لتقرير الأمم المتحدة، لتبقى المذابح التي تجاوزت الألف مذبحة مجرد أرقام في تقارير أممية أو محلية.

يرسم ساكو المذبحتين التاريخيتين استنادًا إلى كتاب «المثلث المحتوم» لنعوم تشومسكي المستند إلى وثائق الأمم المتحدة. وحرص الفنان على إعادة ‏إحياء ما حدث ‏وكشف الحقيقة حفظًا لها ‏من النسيان، فقابل بعض الناجين ‏الأحياء من المجزرة، وزار أرشيف الأمم المتحدة في نيويورك، ففَهم ‏الحاضر بالنسبة إليه لا يتمّ بمعزل عن الماضي.

إحدى الشخصيات التي يذكرها ساكو في كتابه الأول عن غزة ‏هو الشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي كان شاهدًا ‏على مذبحة رفح ‏يوم كان في سنّ العاشرة، ‏واستشهد هو نفسه في عمر السابعة والخمسين، ‏ولم يتغير في واقع غزة وفلسطين كلها ‏منذ ذلك التاريخ، فآلة القتل ‏الصهيونية والغربية ما تزال ‏تستبيح ‏دم الفلسطيني وتنتقل من مذبحة إلى أخرى، ومن إبادة إلى أخرى على مرأى العالم ومسمعه.

‏اليوم، ‏وبعد أكثر من سنة ونصف السنة على الإبادة ‏الجارية في غزة، ‏اكتشف ساكو أنّ ‏الأماكن التي زارها يوم أنجز كتابيه السابقين «فلسطين» و«هوامش من غزة» لم تبق موجودة.

لذلك، حاول في كتابه الجديد «الحرب على غزة» ‏التعبير عن رؤيته ‏الخاصة لفظائع الإبادة الحاصلة، ساخرًا ‏حتى من نفسه عبر ‏رسم ذاتيّ ذي رأس مستدير وشفتين كبيرتين ونظارات من دون عدسات، ملقيًا محاضرة على الفلسطينيين في ما ينبغي أن يفعلوه ‏في غزة، كالاقتداء بغاندي وعدم التحرّك والتظاهر سلميًا عند الحاجز ‏الإسرائيلي لكي يُشيد العالم بسلميتهم ويخجل الإسرائيليون فيوقفوا قمعهم!

سخرية حادة ومُرّة، تميّز ‏أسلوب ساكو الذي يصوّر في المقابل مئات الفلسطينيين من ‏سكان غزة يسقطون في عامَي 2018 و 2019 ‏شهداء لدى احتجاجهم ‏قرب السياج الحدودي على الحصار والاحتلال. ‏ويكتب ساكو ساخرًا: «تثاءب العالم ومضى في عيشه، وبعد ذلك لم تبقَ لديّ أي اقتراحات حول ما ينبغي للفلسطينيين أن يفعلوه».

فنّ جو ساكو جميل، متقن، غنيّ ومؤثّر، وقد تكون ‏كلمة إدوارد سعيد كمقدمة لكتاب «فلسطين» ‏أفضل وصف لفنّه الملتزم والفريد (كشريط مصوّر) ‏في الموضوع الفلسطيني. ومما كتبه ‏صاحب «الاستشراق عن العمل: «لم يقترب ساكو إلى هذا الحد ‏من الواقع المعيش الحيّ للفلسطيني ‏العادي كما فعل في تصوير الحياة في غزة، ‏الجحيم الوطني.

فراغ الوقت، ‏بلادته إن لم نقل بؤس الحياة اليومية في مخيمات اللاجئين، وشبكة العاملين في الإغاثة، والأمهات الثكالى، ‏والشباب العاطلون من العمل، والمعلمون، والشرطة، والطفيليون، ‏وحلقات احتساء الشاي والقهوة المتواصلة في كل موضع، معنى الحبس، ‏الوحل الدائم والقبح الذي يرسمه ‏مشهد مخيم اللاجئين الذي أضحى أيقونةً دالّةً ‏على التجربة الفلسطينية بكاملها (...) ‏يمكنك أن ترى هذا كله بمعنى ‏ما من خلال عيني جو بينما يتحرّك بينهم ويتلكأ ‏هنا وهناك، منتبهًا، ودودًا، مراعيًا، ساخرًا، وهكذا فإن شهادته البصرية تصير هو نفسه، هو مقدمًا من خلال الكوميكس، ‏من خلال أعماق أفعال الدعم والتعاضد».

‏شهادة وافية ‏من مثقف كبير حول فنّ جو ساكو ‏المبدع والمتقن والحرفيّ ‏في مجال الأشرطة المصوّرة الذي يخالطه فنّ ‏الكاريكاتور ‏الساخر (‏بعض الرسوم يمكن النظر إليها كرسم كاريكاتوريّ مستقل ‏وليس ضمن شريط حكائيّ).

‏تقنية رسم عالية، ‏خطوط دقيقة ومشبعة، مستوى فنّي من الأرقى في عالم الكوميكس القديم، ذاك المنجز ‏بالأبيض والأسود، ‏الأسلوب المفضل لجو ساكو ‏بسبب بساطته ونقائه وقوته التعبيرية. علمًا أن طريق ‏ساكو إلى الرسم تمرّ ‏بواسطة الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها كمرجع ثم يحوّلها إلى كادر (frame) مرسوم، ‏ومن هنا واقعية ما نراه في شريطه المصوّر ــ ‏قديمه وجديده ـــ ‏المزدحم ‏بالتفاصيل الدقيقة، ‏بل ‏تفاصيل التفاصيل على نحو مثير للإعجاب والدهشة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد