اوراق مختارة

في سوريا..الحريات الشخصيّة مستباحة في الشارع والفرع!

post-img

مروى جردي/جريدة الأخبار

لم تعد الحريات الشخصية في سوريا شأنًا خاصًا بأصحابها، بل صارت مساحات مستباحة يحق لأي جهة أمنية أو ممثلين لها «بعلمها أو من دون علمها» التدخل فيها وفرض وصايتها. إذ دائمًا ما نادى السوريون بتأمين الحيّز العام، بات الحفاظ على الحيّز الخاص تحديًا يوميًا، مع غياب المساءلة وتغوّل الأجهزة الأمنية.

«خاتم خطوبة» يكشف الهوّة بين القانون والممارسة

في 2 أيار (مايو) الماضي، أوقفت دورية أمنية في شارع خالد بن الوليد المزدحم في مدينة حمص الصحافي والناشط عبد الرحمن كحيل برفقة خطيبته. وبعد طلب أوراق السيارة، سأل أحد العناصر عن علاقة السيدة المرافقة، وعندما أجاب بأنها خطيبته، طُلب منه إثبات رسمي. فأجاب: «لا أملك سوى خاتم الخطوبة»، لتبدأ سلسلة من الإهانات والتوقيف والضرب، وصولًا إلى اتهامه بـ «الاعتداء على الدورية». أثارت حادثة عبد الرحمن كحيل وخطيبته الرأي العام بعد الكشف عن تعرضهما للإهانة والضرب من الدورية، إذ تعرّضت خطيبته للتهديد بـ «التأديب» من رئيس الدورية في حال لم تتحجب. وبينما اتهمه المحقق بـ «الانتماء إلى النظام السابق»، أُجبر كحيل على الاعتذار من العناصر الذين ضربوه.

هذه الحادثة ليست معزولة، مع أنّها تناقض المادة 18 من الإعلان الدستوري الذي وقّع عليه الرئيس السوري أحمد الشرع في 13 آذار (مارس) 2025، وتنصّ على: «صون كرامة الإنسان ومنع التعذيب المادي والمعنوي، وباستثناء الجرم المشهود لا يجوز إيقاف شخص أو الاحتفاظ به أو تقييد حريته إلا بقرار قضائي». إنّها تعكس واقعًا تعسفيًا تتكرس فيه السلطة الأمنية، وتغيب فيه مرجعيات قانونية تحمي الخصوصية الفردية.

«فشرت»... انتهاكات موثّقة

على الرغم من تدخّل مجلس محافظة حمص لاحقًا في محاولة لاحتواء القضية، إلا أنّ العجز بدا واضحًا مع «رفض عقد جلسة استماع حيادية خارج الفرع الأمني» وغياب أي إجراء فعلي مثبت تجاه العناصر المعتدين. حاول كحيل الصمت، لكن صدور بيان رسمي مشوّه للحقيقة دفعه إلى الحديث، رغم التهديدات ومحاولات الترهيب. وشارك عبر حسابه على فايسبوك جانبه من الرواية مرفقًا بصور وتقرير طبي بالإصابات الجسدية التي ألحقت به. أما الجراح النفسية فبقيت الأعمق، معتبرًا أنّ ما حدث معه «ليس حالة فردية بل نتيجة صمت طويل»، داعيًا إلى وضع حد لهذه الممارسات ومحاسبة المتورطين.

في المقابل، تواصلنا عبر مديرية الإعلام في المحافظة مع الرائد مصطفى الأحمد مسؤول القسم الجنائي في «فرع الوعر» الذي جرى فيه التوقيف. وقد أوضح تفاصيل الواقعة التي استدعت تدخل دورية للأمن العام، مشيرًا إلى أنّ «السيارة كانت مركونة بلا لوحات ونوافذها مغطاة، ما استدعى الشك، خصوصًا بعد حادثة سابقة لاختطاف امرأة في حمص».

بحسب الأحمد، الكحيل «مانع التعاون» وقال «فشرت» لرئيس الدورية، وهو ما استوجب توقيفه «أصولًا» وتحويله إلى القسم الجنائي، قبل أن يُفرج عنه بعد مصالحة وتوقيع «تصريح» من دون تنظيم ضبط رسمي بوجود محمد جابر قريب الفتاة ككفيل. وأضاف أنّ: «أي تجاوزات من العناصر المنتسبين حديثًا يتم احتواؤها إما بالعقوبات أو بالفصل»، وأن أي مواطن يمكنه تقديم شكوى للنائب العام في حال شعر بالظلم.

على الرغم من في البيان الأمني وجود أي اعتداء مقصود بغرض التعذيب أو الإيذاء، إلا أن رواية الكحيل، وما ورد في تقاريره الطبية والتفاصيل الدقيقة التي قدمها، تشير إلى وجود فجوة كبيرة وتضارب بين الخطاب الرسمي وما يحدث فعليًا، بما يُظهر إشكالية أعمق تتعلق بغياب منظومة شفافة للمساءلة والمحاسبة.

من حماة إلى الفضاء الرقمي

في حادثة مشابهة، انتشرت صور وفيديوهات لشابين مسيحيين من محافظة حماة، تعرّضا للضرب وحلاقة الشعر على خلفية جلوسهما مع زميلات مسلمات. وتضمّن الفيديو صوت أحد المعتدين يرتدي زيّ الأمن العام وهو يصرخ: «عم تساوي دعارة مع البنات المسلمين». أثارت الحادثة تضامنًا واسعًا، لكن لم يصدر أي رد رسمي «ينفي أو يؤكد» الحادثة حتى الآن. وكانت الإعلامية في تلفزيون «العربي» نور حداد سبق أن نشرت في حسابها على إنستغرام أنه أوقفت وصديق لها في الشارع في دمشق من أشخاص يدعون أنهم من الأمن العام، والسؤال عن صلة القرابة بينهما، قبل أن يتراجعوا بعد معرفة هوية حداد، والتعليق بالقول «روحي أنت ما بينعلق معك».

 تتكرّر الحوادث التي تتعلّق باختلاط النساء والرجال في الأماكن العامة: يخبرنا علاء (اسم مستعار) أنه في أثناء انتظاره مع زوجته في «حديقة الوحدة» في دمشق لوصول دورهما في إحدى العيادات الطبية تقدم منهما شابان بلباس مدني، وطلبا منه تقديم أوراق تثبت أنّ من تجلس إلى جانبه في مقعد الحديقة هي زوجته. وبعد تقديم دفتر العائلة ترك بعد الطلب بترك مسافة بينهما لأن المكان عام!

النساء في مرمى العنف اللفظي والجندري

الناشطة جود حمادة كانت هدفًا لحملة تنمّر بعد انتقادها فيديو يظهر الرئيس أحمد الشرع وهو يلعب كرة السلة مع وزير خارجيته، معتبرة أنه جاء في وقت يتجاهل فيه ملف ضحايا التعذيب. والهجوم الذي تعرضت له حمادة لم يكن عشوائيًا، جاء بتحريض علني من المدوّن أحمد العقدة الذي وصفها بعبارات مهينة ودعا إلى حملة تحشيد ضدها. علمًا أن العقدة كان من ضيوف قناة الإخبارية السورية في يوم إعادة انطلاقتها في 5 أيار (مايو) الماضي.

هنا لا بد من استحضار ما كتبته الباحثة سينثيا إنلو بأن: «النساء لسن مجرد ضحايا في الحروب والصراعات، بل تُستَخدم أجسادهن رمزا للسلطة والانتصار أو أداة لإذلال الخصم». وهو ما ينطبق على الطريقة التي تتعامل بها بعض الأجهزة الأمنية وأصواتها الإعلامية أو الموالين لها مع النساء في سوريا.

لخصت الباحثة دنيز كانديوتي هذه الدينامية بدقّة حين كتبت أنّ: «النساء يُحاصَرن في المجتمعات الأبوية ضمن حدود مفهوم الشرف، إذ يُصبح التحكم بأجسادهن وسلوكياتهن شرطًا لاستمرارية النظام السلطوي». وهو أسلوب استخدمه النظام السابق ومؤيدوه في خطابهم أو أعمالهم كما تقوم به الإدارة السورية الجديدة ومؤيدوها.

في سوريا اليوم، لا تكفي القوانين وحدها لحماية الحريات الشخصية، ما لم تُرافق بإرادة سياسية حقيقية ومحاسبة واضحة للأجهزة الأمنية. وحتى يتحقق ذلك، سيبقى الأفراد عُرضة للابتزاز، والكرامة مسألة تفاوض يومي في الشارع والفرع.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد