اوراق خاصة

عندما تتكلّم صناديق الانتخابات في زمن الصراع

post-img

د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام

في سياق سياسي مضطرب، لا تعدّ نتائج الانتخابات تعبيرًا عدديًا فحسب، هي مؤشّر اجتماعي عميق يُعيد تشكيل المعادلات الداخلية والخارجية للبلد. وتترك هذه القراءات مفاعيلها عندما تُعقد انتخابات في بلد يعيش صراعات مزمنة، أو صراعات متعدّدة، سواء أكانت داخلية أم خارجية، عندها تصبح صناديق الاقتراع ساحة رمزية وميدانية في آن، فتأتي لاختبار شرعية القوى الفاعلة وتوازناتها، لذلك تُقرأ النتائج بما يتعدّى الأرقام إلى ما تمثّله من رسائل موجّهة إلى الداخل والخارج.

هذا ما شهدناه في الاستحقاق الانتخابي الأخير في لبنان، في بلدٍ ما يزال يعاني بسبب تبعات حرب وحشية ومدمّرة، طالت البشر والحجر. أضف إلى ذلك، رزوحه تحت وطأة انقسام سياسي حاد، وانهيار اقتصادي خانق، وتدخّلات خارجية لم تهدأ.. أسفرت عن  زجّ هذا الوطن في ساحة معركة أخرى، خيضت فيها الحروب الإعلامية والنفسية والسياسية.

في هذا السياق، كانت الحملة الانتخابية مشحونة بأحاديث عن تراجع شعبية أحد التيارات المحورية، وبخاصّة تيّار المقاومة وبيئته الحاضنة فكريَا وثقافيَا وانتماءً. لقد ضجّت وسائل الإعلام المحلي والدولي بتقارير تُجمع على أن هذا التيار قد خسر قاعدته الشعبية، وانكفأ عن الشارع، وتآكل حضوره في الوعي الجمعي، في مقابل صعود قوى جديدة تقدّم نفسها بديلًا "إنقاذيًا" أو "إصلاحيًا".

دلالات استراتيجية

في واقع الأمر، جاءت النتائج الانتخابية لتقلب التوقّعات رأسًا على عقب، فالجهة "الموصوفة" بالانكسار حقّقت فوزًا انتخابيًا ساحقًا، وحصدت الغالبية في المناطق التي قيل إن شعبيتها فيها اندثرت. لكنّ هذا الاستحقاق، على الرغم ممّا يعتقده البعض، أو على الرغم ممّا قد يروّج عن بساطته الظاهرة، حمل بين طياته دلالات استراتيجية مهمّة، لا سيما في توقيته، فبعد حرب مدمّرة في الجنوب، ووسط ظروف معيشية ضاغطة، جاءت الانتخابات لتكون "استفتاءً سياسيًا" على ثقة الناس بالقاعدة الممثّلة لبيئة المقاومة وبيئتها الحاضنة.

تاليًا؛ لم تكن الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان عامّة، وفي عاصمته وجنوبه خاصّة، سوى تجسيد ميداني لحقيقة سياسية ثابتة ولا تقبل الشك، وهي أنّ هذه الجهة ما تزال الممثّل الأول، وربما الوحيد، للشارع في هذه المناطق، وحتى في معظم المناطق التي خاضت فيها هذا الاستحقاق الوطني والدستوري.

أوّلًا- خلفيات المشهد الانتخابي في البيئة المأزومة والتضليل المُمَنهَج

منذ أشهرٍ سبقت الانتخابات، جرى توظيف الآلة الإعلامية لنسج رواية عن أفول دور المقاومة، وحتى عن هزيمة قاعدتها الشعبية والوطنية؛ فاستُخدمت وسائل متعدّدة ومؤثّرة على الصعد كافّة، منها استطلاعات للرأي، والتعبئة العاطفية والأدبيات السياسية التي تروّج لتراجعه. حتى بدا بعض حلفائه كأنهم يستعدّون لما بعده، فيما خصومه نظّموا حملاتهم الديمقراطية الموهومة على قاعدة أنّه العدوّ الذي يُحتضر.

في ظل هذا المشهد، راقبنا كيف يمكن أن تُقلب الحقائق بفعل حملات تضليلية منظّمة ليتحوّل المنتصر الحقيقي إلى خاسر في أعين الرأي العام، والعكس بالعكس. وكيف يمكن لجهة تتعرّض لحملات تشويه مستمرة أن تحقّق انتصارًا انتخابيًا باهرًا على الرغم من الشائعات كلها التي سبقت الاستحقاق.

تظهر الدراسات العلمية أنّ الدول التي تعيش صراعات داخلية وخارجية، سواء أكانت حروبًا أم انقسامات طائفية أم تدخّلات خارجية وانهيارات اقتصادية .. تُصبح بيئة المعلومات فيها هشّة ومفتوحة للتلاعب. في هذا السياق؛ تستخدم بعض القوى تقنيات التضليل (Disinformation) أداةً سياسية، عبر وسائل إعلام تابعة ومنصات رقمية و"مؤثّرين" مدفوعي الأجر؛ فتُنشر شائعات عن انهيار جهة معيّنة، أو تفكّك قواعدها، أو تخلّي حلفائها عنها، أو تدنٍّ حاد في شعبيتها. وتُضخ هذه الروايات باستمرار حتى تُصبح كأنّها "حقيقة بديلة".

لكن الواقع الانتخابي لا يخضع دومًا لهذا التلاعب. إذ إنّ صناديق الاقتراع، وإن شابها تشكيك، تُفصح أحيانًا عن إرادة جمعية صامتة تُفاجئ الجميع. وفي ظل هذه البيئة المعقّدة، عبّر الشارع، والذي قيل إنّه غاضب، بطريقة مختلفة. فصوّت للتاريخ، للرمزية، للهوية، ولموقف ما يزال يرى فيه ضمانة، حتى لو بدا هذا الموقف مكلفًا على المستوى الاقتصادي أو السياسي. وهنا، برزت عناصر الثقافة السياسية والذاكرة الجمعية والوجدان الشعبي، بشكل لا يمكن الاستهانة به.

ثانيًا- قراءة في الأسباب الكامنة وراء النتيجة

لا يمكن تفسير هذه النتيجة الانتخابية إلا بتداخل عوامل عدّة، تمحورت في مسارات متعدّدة، منها الخطاب ونوعه واتجاهاته، والبدائل الممكنة، إضافة إلى البيئة الحاضنة، من دون أن ننسى العامل الجيوسياسي  الفاعل والمحوري وراء هذه القراءات، وتكمن في:

  1. خطاب الضحية والمظلومية: لطالما نجحت هذه الجهة في استنهاض جمهورها، من خلال استثمار الاتهامات الموجّهة إليه، وجعلتها مادة تعبوية. وبيّنت التجارب أنّه كلّما زادت الضغوط عليه زادت فرصته في تعزيز تماسكه الداخلي.
  2. غياب البديل المقنع: كثير من القوى الجديدة التي خاضت الانتخابات قدّمت شعارات عامّة، لكنها لم تستطع تقديم أجوبة مقنعة عن أسئلة الشارع، لا سيما في المناطق التي تتطّلب خطابًا ميدانيًا وحمائيًا ومعيشيًا ووجوديًا، وليس فقط إصلاحيًا نخبويًا أو تنمويّا.
  3. شبكة التنظيم القاعدي: أثبتت التجارب والتحدّيات، مهما بلغت فساوتها، أنّ هذه الجهة تمتلك قاعدة اجتماعية يصعب خلخلتها في أي حملات إعلامية؛ فالشبكات الإنسانية التي بناها على مدى عقود، عبر العمل الاجتماعي والتنموي، أثبتت قدرتها على تعبئة الجمهور.
  4. العامل الجيوسياسي: في بلد يتقاطع فيه المحلي بالإقليمي، جاء التصويت رسالةً خارجية بامتياز، مفادها أن محاولات إقصاء هذه الجهة من المشهد لن تمرّ من دون مقاومة شعبية، كونه يتماهى بشكل كليًا مع بيئته الحاضنة التي لا تقبل مساومة على وجوده. باختصار هذه الجهة هي البيئة الممثّلة له من دون منازع.

ثالثًا- شرعية مستعادة

هل نحن أمام شرعية مُستعادة أم مقاومة رمزية؟

ثمّة سؤال يفرض نفسه: هل هذا الفوز الانتخابي يعني بالضرورة استعادة شرعية شاملة لهذه الجهة؟

يحمل الجواب أكثر من مستوى. من جهة، نعم، لقد أعاد تثبيت نفسه لاعبًا لا يمكن تجاوزه. ومن جهة أخرى، لا يمكن إنكار حجم التحدّيات التي تنتظره، داخليًا وخارجيًا. ونتيجة لما أفرزته هذه الانتخابات، نجد أنّ الشارع منحه تفويضًا ضمنيًا، وغير مشروط بتحقيق النتائج التي يرسمها لبقاء حضوره وفعاليته.

صحيح أنّ الفوز لا يُلغي الأصوات المعارضة، ولا يخفّف من حدّة الأزمة البنيوية في بلدنا؛ لكنه في الوقت نفسه، يعيد توجيه بوصلة الحوار السياسي، ويفرض على الخصوم الرضوخ لمقاربة جديدة للتعاطي معه. وممّا لا شكّ فيه إنّها لحظة مفصلية قد تقود إلى المزيد من الاستقطاب، أو إلى فتح نافذة تفاوض على أسس جديدة.

رابعًا- في دلالات التوقيت والرسائل

في السياسة، للتوقيت دلالة. أن تأتي هذه النتيجة، في ظلّ حديث عن انهيار سياسي واقتصادي، فهذا يعني أن القاعدة الاجتماعية لبيئة المقاومة وبيئتها الحاضنة قد اختارت الصمود والرهان على خيارها الاستراتيجي، لا الرضوخ لابتزاز الواقع. الرسالة، هنا، تتعدّى الداخل، وهي موجهة إلى الفاعلين الإقليميين والدوليين، وتُفيد بأنّ "محاولة عزل هذه الجهة ستؤدي إلى المزيد من الاصطفاف لا إلى التآكل".

خامسًا: الفوز وما بعده

ماذا بعد الفوز؟

المعضلة الكبرى تكمن، الآن، في اختبار ما بعد هذا الفوز الكاسح. كيف سيتصرّف المعنيون في بيئة المقاومة وبيئتها الحاضنة؟

لقد أثبتت التجربة، على مدى عقود طويلة، أنّ هذه الجهة قرأت رسائل الداخل بانفتاح، وهي تعمل باستمرار على إعادة بناء خطابها السياسي والاجتماعي وفقًا للمتغيّرات والمستجدات، وكذلك الأمر فهي تسثمر كل فوز محاولةً إطلاق دينامية جديّة.

المطلوب، إذًا، أن يتحوّل هذا الانتصار إلى فرصة لإعادة بناء الثقة ولإعادة صياغة مشروع سياسي يجمع بين الثوابت الوطنية والتطلّعات الاجتماعية الجديدة. وأعتقد أن مسار هذه الجهة يبيّن بأنّ الشرعية الحقيقية لا تُبنى فقط على الفوز في الانتخابات، أيضًا على القدرة في تحويله إلى فعل إنتاجي وتشريعي وخدماتي، يعبّر عن وجدان الناس ويخدم مصالحهم.

الحقيقة لا تُقهر  .. دائمًا

إنّ ما حصل ليس مجرد عملية اقتراع ناجحة، هو لحظة تأسيسية تعيد رسم خريطة التحالفات، وإعادة قراءة المزاج الشعبي.. فالمقاومة التي روّج أنّها انكسرت، عادت وأثبتت أنّ شعبيتها لا تُقاس فقط بضجيج الإعلام، بل بعمق حضورها في النسيج الوطني الاجتماعي. إذ على الرغم من آلة التضليل وقلب الحقائق، تبقى الانتخابات، مهما شابها من شوائب، لحظة كاشفة. ومتى أُتيح للناس أن يُعبّروا، حتى في ظروف قاهرة، سيرسلون إشارات واضحة لا تقبل اللبس.. فالجهة التي صمدت تحت القصف الإعلامي، واستطاعت أن تخلق روايتها البديلة، وتصل إلى جمهورها على الرغم من الحصار، تُثبت أن الحقيقة يمكن أن تنجو، وأن الكرامة السياسية لا تُشترى.

في زمن الفوضى، يُصبح النصر الانتخابي فعل مقاومة. إنّها بحق لحظة انكشاف، لا فقط لمن يُنتخب، أيضًا لمن ظن أنه قادر على إعادة تشكيل الوعي الجماعي بمعزل عن إرادة الناس.

فليكن الدرس: في السياسة، كما في الحياة، لا يُمكن تزيف الحقيقة أن يدوم طويلًا؛ إن كانت الجذور في الأرض، والناس في صفّها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد