حسين كوراني/ موقع أوراق
منذ انطلاقتها، في العام 1982، استطاعت المقاومة في لبنان إرساء معادلات عسكرية وسياسية واجتماعية، نتيجة الخبرات التي راكمتها في مقارعتها للعدو الإسرائيلي، حتى فرضّت على الجميع تقديرها والتعامل معها على أنها قوة وازنة يحسب لها ألف حساب.
مرّت المقاومة اللبنانية، منذ نشأتها، بتحولات ومراحل وجولات قتالية عدة. ومع كل جولة تخوضها، كانت تجربتها العسكرية تتعاظم وتكتيكاتها الميدانية تتزايد، وعودها يشتد قسوة، والناس تلتّف من حولها وتحتضنها أكثر، حتى أصبحت المقاومة مع مرّ الأيام قوة إقليمية ورأس حربة قتال الصهاينة في المنطقة، ما جعل قادة العدو يرونها التهديد الأول لكيانهم العبري المصطنع.
تشكّلات المقاومة الأولى
أولى التحولات العسكرية التي واجهتها المقاومة وشكّلت لها الامتحان الأصعب؛ كانت خلال الاحتلال الإسرائيلي للبنان بعد السادس من حزيران في العام 1982. إذ إنه، وخلال أيام قليلة، استطاعت قوات العدو احتلال قسم كبير من الأراضي والوصول إلى العاصمة بيروت ومحاصرتها لمدة 70 يومًا. والهدف من العملية، والتي أطلقت عليها اسم "سلامة الجليل"، إنهاء "منظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان وإقامة نظام سياسي جديد في البلد يقبل بالتفاوض معها وإقامة معاهدة سلام.
مع أن الاحتلال واجه مقاومة، من قوى لبنانية قومية وإسلامية وناصرية ويسارية وفصائل فلسطينية، في بعض مناطق الجنوب والجبل وفي خلدة على مدخل العاصمة بيروت، إلا أن الرعب كان يمشي أمام قوات العدو الغازية، فسيطر العامل النفسي على غالبية المقاومين قبل المواطنين، فقد عبرت أكثر من ألف دبابة وآلاف الجنود الإسرائيليين المناطق الجنوبية الحدودية، من بنت جبيل إلى حاصبيا وصولاً حتى البقاع، ومن الخط الساحلي من الناقورة مرورًا بصور وصيدا باتجاه بيروت التي حوصرت بنحو 3500 جندي، وأكثر من 300 دبابة و100 مدفع. وفي 13 حزيران؛ نجح الجيش الإسرائيلي بالوصول إلى جوار مدينتي بعبدا واليرزة، حيث يقع القصر الجمهوري ووزارة الدفاع اللبناني، وكأنه في رحلة سياحية، حيث واجه مقاومة ضعيفة مشتّتة لا تمتلك الإمكانات الكافية لصد هجومه.
من بين هذه القوى اللبنانية؛ برزت مجموعات إسلامية جديدة كانت ناشطة في إطار اللجان والجمعيات الإسلامية، حيث شاركت في مواجهات خلدة البطولية، ونفذت عمليات نوعية ضد المحتل من دون الإعلان عنها. وهذه المجموعات مهّدت لبروز حالة إسلامية جديدة في لبنان لم تكن معروفة سابقًا، وأطلق عليها لاحقًا اسم: "حزب الله."
كانت العملية الأبرز لهذه المجموعات الإسلامية المقاومة، العملية الاستشهادية الأولى في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 1982 في مدينة صور. نفذها الشهيد أحمد قصير، فأرعبت العالم أجمع، حين أدت إلى مقتل أكثر من مئة وعشرين ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا، ولحقها عمليات استشهادية كثيرة كان وقعها على العدو مؤلمًا. ومن هنا؛ بدأت مقاومة الاحتلال تأخذ منحىً خطيرًا على الصّعد كافة، حيث وجد الصهاينة أنفسهم أمام مقاومة من نوع آخر في تخطيطها وتكتيكها. وبعد شهرين، أي في تشرين الأول من العام ذاته، اندحر الجيش الإسرائيلي من بيروت على وقع المقاومة المتصاعدة في وجهه، مبقيًا على قواته في الجنوب.
أمام هذا الواقع المرير، بدأت تظهر أولى ثمار الاجتياح تباعًا، إذ انتخب بشير الجميل رئيسًا لجمهورية للبنان، في 23 آب، ولكنه قُتل في أثناء انتخابه، في تفجير المبنى الذي كانت تجري فيه عملية الانتخاب. وفي العام التالي وقّع، أخوه أمين الجميل الذي انتخب رئيسًا اتفاق 17 أيار 1983، وتحت وقع ضربات المقاومة وانتفاضة 6 شباط 1984 ألغى الجميل الاتفاق بعد شهر واحد، في 5 آذار وقطع العلاقات مع "إسرائيل" وتقرّب من سوريا. وفي 17 شباط من العام 1985؛ اندحرت القوات الإسرائيلية من صيدا ومنطقة طريق بيروت- دمشق وصولاً إلى الشريط الحدودي الجنوبي، حيث أنشأت حزامًا أمنيًا بمساعدة ميلشيات العميل أنطوان لحد المنشق عن الجيش اللبناني، يمتد على طول الحدود بعمق يتراوح بين 5 إلى 20 كيلومترَا من الناقورة حتى مزارع شبعا.
المجتمع اللبناني يحتضن المقاومة
مع هذا التطور؛ بدأت المقاومة تأخذ منحىً آخر على المستويات كافة، خاصة بعدما شاهد اللبنانيون إجرام العدو إبان الاحتلال، وأيقنوا أن "إسرائيل" قائمة على التوسع والمجازر، ما خلق وعيًا مطلقًا بين غالبية الناس بأحقيّة المقاومة ومشروعيتها، حتى باتت مطلبًا شعبيًا. وصار هناك نوع من العلاقة الرحمية المتبادلة بين الشعب والمقاومة، إذ رأى المجتمع أن المقاومة هي سنده، والمقاومون رأوا في الناس بيئتهم الحاضنة، بمعنى آخر أصبحت المقاومة هي الناس أنفسهم.
تولّدت قناعة عند المقاومة وشعبها أن الأرض لا تحرّرها القرارات الدولية ولا المجتمع الدولي، التضحيات وحدها من تعيد التراب الى أهله، ومن تَلجم "إسرائيل" عن أهدافها العدوانية، وأن زيف "السلام" مقابل الأرض والتطبيع ليس إلا وجهًا من وجوه الهيمنة الاقتصادية والفكرية، وحتى السياسية لإذلال الشعوب.
يومًا بعد آخر، وخلال النصف الثاني من حقبة الثمانينيات، كثّفت المقاومة من كمائنها وعملياتها النوعية على مواقع الاحتلال في الشريط المحتل، ملحقة به الخسائر الجسيمة في العناصر والعتاد. وكان الامتحان الأصعب لقادة العدو بعد اندحاره إلى الشريط، حين زجّ بقوة من جيشه إثر استشهاد الأمين العام الثاني لحزب الله السيد عباس الموسوي، في شباط العام 1992، من أجل السيطرة على تلة الحقبان بين بلدتي ياطر وكفرا وإيقاف الصواريخ التي أطلقت من هناك على مستعمراته، فإذ به يُفاجئ بكمين محكم أعدته المقاومة أدى إلى قتل وجرح عدد كبير من جنوده، فانسحبت القوة.
كما تلقى العدو صدمة أخرى؛ حين شنّ على لبنان في 25 تموز 1993 حربًا واسعة، أطلق عليها اسم "تصفية الحسابات" استمرت 7 أيام، واضعًا جملة من الأهداف؛ أهمها تدمير ترسانة صواريخ حزب الله ووقف وصولها إلى مستوطناته، والضغط على الحكومة اللبنانية لاتخاذ مواقف ضد المقاومة وتأليب القاعدة الشعبية ضدها. لكن واقع المقاومة غيّر مسار الحرب وقلب موازين القوة. وبعد ثلاثة أعوام، في نيسان العام 1996، عاود الاحتلال عدوانه على لبنان تحت اسم "عناقيد الغضب"، ويعدّ محطة مفصلية، بنتائجه وأبعاده وتداعياته، في سير المواجهة والصراع بين المقاومة وكيان الاحتلال ما قبل التحرير، حين فشل في تحقيق أهدافه بالقضاء على منصات إطلاق الصواريخ، بل أدخلت المقاومة صواريخها للمرة الأولى في معادلة ردع جديدة.
أمام تلقي العدو العديد من الضربات النوعية الموجعة بعد عدوان نيسان، والتي أفقدته صوابه، اضطر مرغمًا للاندحار عن لبنان، فكان تحرير الجنوب في 25 أيار 2000، يومًا مجيدًا في تاريخ صراع المقاومة مع المحتل. ومع اندحاره هذا؛ أصبحت المعتقدات التي كانت سائدة إبان الاحتلال في أن "العين لا تقاوم المخرز"، و"الجيش الذي لا يقهر"، تتبدد وباتت أوهامًا من الماضي عند غالبية اللبنانيين، وأصبحت مقولة "إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت" التي أطلقها الشهيد الأقدس السيد حسن نصرالله أقرب إلى الواقع.
انتقام العدو الفاشل يردّه إلى نحره
بعد مضي 6 سنوات على التحرير، وفي تموز 2006، شنت "إسرائيل" عدوانًا كبيرًا على لبنان بهدف القضاء على المقاومة، استمر لـ 33 يومًا، لكنها لم تستطع أن تثبّت قواتها في المناطق التي تقدّمت إليها، نتيجة استدراج رجال المقاومة لها والفتك بها، ما اضطرها إلى وقف العدوان مذهولة ذليلة.
هكذا؛ أصبحت "إسرائيل" دولة عاجزة تمتلك جيشًا هزيلاً؛ فبعد أن وصلت قواتها إلى قلب بيروت في العام 1982، ظلت لمدة 66 يومًا تقاتل على أطراف قرى الحافية الأمامية خلال عدوان أيلول 2024؛ من دون أي تقدم يذكر، ومع أن المقاومة تعرضت لضربات قاسية من سلاح الطيران العدو نتيجة لتفوقه التكنولوجي، وفقدت أبرز قادتها، لكن رجالها سطروا أروع ملاحم البطولات في ميادين القتال، وأجبروا العدو على وقف إطلاق النار.
إلى اليوم؛ ما يزال الالتفاف الشعبي حول المقاومة يشكّل عامل قوة؛ يحميها من الضغوط التي تتعرض لها في هذه الأيام، خاصة وأن الجمهور اللبناني يدرك جيدًا أن المقاومة ليست فقط قوة عسكرية، هي أيضًا الخط الدفاعي الأول عن السيادة الوطنية في مواجهة أطماع الاحتلال.