فادي الحاج حسن / كاتب وباحث لبناني
في ظلال الاحتلال والعدوان، تتكرر مأساة شعب لا ينكسر، يقف في وجه آلة حرب لا تعرف الرحمة، ومدعومة بقوة عظمى تلوح بيدها الغطاء السياسي والمالي، لتسويغ الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين الأبرياء.
هذه هي قصة الاجتياح الذي شهده لبنان، في العام 1982، والذي ما تزال آثاره تلوح في أفق الحاضر، حين تتجدد محاولات فرض نزع السلاح عن الفلسطينيين في مخيماتهم، بزعم حفظ الأمن والاستقرار، في حين أن السلاح هو رمز المقاومة ودرع الحماية في وجه الاحتلال والظلم.
في ذلك العام، دخلت قوة عسكرية ضخمة إلى لبنان مدعومة من دولة كبرى، تحت ذريعة مواجهة "منظمة التحرير الفلسطينية"، والتي كانت تمثل صوتًا للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. لم تكن هذه العملية مجرد حملة عسكرية، كانت خطة محكمة لتدمير الوجود الفلسطيني في لبنان، وتحويل الساحة اللبنانية إلى مسرح لصراع إقليمي، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية تمنح الضوء الأخضر لهذا العدوان، متجاهلة القانون الدولي والقيم الإنسانية كلها.
وصل المبعوث الأمريكي الخاص إلى بيروت، في بداية الاجتياح، حاملاً وعودًا كاذبة بأن الاحتلال لن يتجاوز مناطق معينة، وهناك ضمانات لحماية المدنيين. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ فالاحتلال تجاوز كل الحدود، واندفع نحو قلب العاصمة اللبنانية، محاصرًا المخيمات الفلسطينية، ومستخدمًا أسلحة محرمة دوليًا، من قنابل الفوسفور إلى القنابل العنقودية التي أزهقت أرواح الآلاف من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وأدت إلى تشوهات دائمة في أجساد الناجين.
المبعوث الأمريكي، بدلاً من أن يكون وسيطًا نزيهًا، كان ينقل مطالب الاحتلال على أنها قرارات أمريكية، ويضغط على المقاومة لتسليم سلاحها، مع تهديدات متكررة بتصعيد القصف والحصار. وعندما بلغت المعارك ذروتها، كان هو نفسه يتدخل ليقدم نفسه منقذًا ومقدمًا وعودًا لحماية المخيمات الفلسطينية مقابل انسحاب المقاتلين إلى خارج لبنان. لكن هذه الوعود لم تكن سوى غطاء لعملية تطهير عرقي، حيث ارتكبت مجازر مروعة في مخيمي صبرا وشاتيلا، بدعم مباشر من الاحتلال وأدواته المحلية، في واحدة من أبشع صفحات التاريخ الحديث.
هذا المشهد الدموي يعيد إلى الأذهان ما يحدث اليوم في غزة، حيث تتواصل آلة القتل الإسرائيلية مدعومة من القوة العظمى ذاتها، في حصار خانق وقصف مستمر، يستهدف المدنيين الأبرياء، ويستخدم أسلحة محرمة دوليًا. وفي الوقت نفسه، تُفرض على الفلسطينيين في لبنان مطالب بنزع سلاحهم، بزعم أن ذلك سيحقق الأمن والاستقرار. لكن الحقيقة أن نزع السلاح هو تسليم بلا قيد أو شرط، وهو مدخل لمزيد من المجازر والدمار، كما شهدنا في الماضي القريب.
السلاح في يد المقاومة ليس مجرد أداة حرب، هو رمز للكرامة والحرية، ووسيلة للدفاع عن النفس في وجه احتلال لا يعترف بحقوق الإنسان ولا بالقانون الدولي. المقاومة المسلحة هي رد فعل طبيعي على العدوان والظلم، وهي الضمانة الوحيدة لبقاء شعب تحت الاحتلال، يحافظ على وجوده وحقوقه.
إن محاولة نزع السلاح الفلسطيني، في مخيمات لبنان، خاصة في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي، تعني ترك الفلسطينيين عرضة للقتل والتشريد، كما حدث في الماضي، وتكرار لمأساة صبرا وشاتيلا. والتاريخ يعلمنا أن الاحتلال لا يتوقف عند حدود، ولا يرحم الضعفاء الذين يسلّمون سلاحهم، حين يستغل ذلك لارتكاب المزيد من الجرائم.
الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي مباشر، استخدم في اجتياحه للبنان، في العام 1982، قوة عسكرية هائلة، تجاوزت المعايير كلها، فقد شارك في العملية نحو سبعين ألف جندي مدعومين بمئات الدبابات والطائرات، وقاموا بحصار القسم الغربي من العاصمة بيروت – كانت تُسمّى "بيروت الغربية"- مركز المقاومة الفلسطينية، لمدة طويلة تحت قصف جوي وبري وبحري مكثف. في هذه الأثناء، تعرض المدنيون لحصار فيه جوع وعطش، وحرمان من أبسط حقوق الحياة، بينما كانت القنابل تتساقط بلا هوادة.
كانت النتيجة مأساة إنسانية هائلة، فقد قتل عشرات الآلاف من المدنيين، بينهم آلاف من الأطفال والنساء، وأصيب الآلاف بجروح خطيرة وتشوهات دائمة بسبب استخدام أسلحة محرمة دوليًا. لم يكن هذا مجرد صراع عسكري، كان حملة إبادة موجهة ضد شعب بأكمله، في محاولة لتصفية وجوده.
في خضم تلك الأحداث، كان المبعوث الأمريكي يتنقل بين الأطراف يحمل رسائل الاحتلال، ويضغط على المقاومة لتسليم سلاحها، مع وعود بحماية وهمية لا تتحقق. وبعد أن حقق الاحتلال أهدافه العسكرية، سُمح للمقاتلين الفلسطينيين بالانسحاب إلى خارج لبنان، تاركين خلفهم مخيمات مدمرة، وشعبًا مكلومًا ما يزال يعاني تبعات ذلك العدوان.
اليوم، ومع تجدد محاولات فرض نزع السلاح الفلسطيني في لبنان، لا يمكن إلا أن نستذكر هذه التجربة المريرة التي تثبت أن السلاح هو جزء من حق المقاومة في وجه الاحتلال والظلم. نزع السلاح يعني تسليم الفلسطينيين لمصير مجهول، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن استهداف المدنيين، مستخدمًا أسلحة محرمة دوليًا، ومرتكبًا مجازر متكررة.
إن المقاومة، بكل أشكالها، هي صرخة وجود في وجه آلة القتل، وهي الضمانة الوحيدة لبقاء الحقوق والكرامة. السلاح هو درع الضعفاء، وليس أداة للعدوان، وهو الذي يحمي المخيمات من المزيد من المجازر، كما شهدنا في الماضي القريب. في مواجهة هذا الظلم والاعتداءات، لا بد من إعادة النظر في المفاهيم التي تروج لنزع السلاح، والاعتراف بأن السلاح هو جزء لا يتجزأ من حق الشعوب في الدفاع عن نفسها، وأن العدالة لا تتحقق إلا بالمقاومة، والسلام الحقيقي لا يمكن أن ينبني على استسلام المظلوم لجلاده.
إن التاريخ لا يرحم، والتجارب المريرة تعلمنا أن من يسلم سلاحه يسلم نفسه للمجزرة، وأن الاحتلال لا يتوقف إلا أمام قوة المقاومة التي هي صوت الحق في وجه الظلم...
لتكن هذه الدروس شاهدة على أن السلاح الفلسطيني في المخيمات هو ضمانة الوجود ودرع الكرامة، وأن نزع السلاح هو بداية النهاية لحق المقاومة في وجه الاحتلال والظلم.