أسامة صفار/ العربي الجديد
يكشف تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي عن استثمار مؤسسات مالية كندية في شركات صناعات عسكرية ومشاريع استيطانية إسرائيلية، ما يخالف وعودًا حكومية سابقة بعدم إرسال أيّ سلاح إلى غزة ويورط أوتاوا في الإبادة الجارية.
- في صبيحة الأول من إبريل/نيسان 2024، لم تكن قافلة الإغاثة التابعة لمنظمة المطبخ المركزي العالمي (World Central Kitchen) العاملة في غزة، سوى حلقة جديدة في سلسلة الأهداف الإسرائيلية التي لم يحمِها شعار "العمل الإنساني". فجأة أثناء سير ثلاث مركبات تحمل شعار المنظمة التي تؤمن الغذاء لضحايا الكوارث والحروب، قرب دير البلح وسط قطاع غزة، اخترقتها صواريخ دقيقة أُطلقت من طائرة مسيّرة من طراز "هيرمس 450" الإسرائيلية، وقتلت سبعة أشخاص.
الطائرة المُستخدمة في الهجوم، واحدة من إنتاجات Elbit Systems إحدى أكبر شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية والمسؤولة عن تصنيع 85% من الطائرات بدون طيار التي تستخدمها قوات الاحتلال، وتتميز هيرمس 450 بقدرتها على حمل أربعة صواريخ جو أرض متوسطة المدى من طراز سبايك وفق قاعدة بيانات الصادرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية DIMSE. ووظفها سرب الطائرات بدون طيار 161 التابع لسلاح الجو الإسرائيلي منذ اليوم الأول في حربه على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلال 110 هجمات على 1000 هدف غالبيتها كانت عبارة عن مركبات عائدة من مستوطنات الغلاف إلى غزة، وتقلّ أسرى إسرائيليين، وأسفرت الغارات عن تدمير هذه المركبات ومقتل من كانوا بداخلها، بحسب ما يوثقه تقرير صادر عن منظمة American Friends Service Committee (خيرية تهدف إلى نشر السلام مقرها واشنطن) بعنوان "الشركات المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة".
تُدرج "هيرمس 450" ضمن 11 صنفًا من الأسلحة والذخائر والأنظمة العسكرية التي تصنّعها شركة "إلبيت سيستمز"، ويستخدمها جيش الاحتلال في عدوانه على غزة والضفة الغربية، في "هجمات ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية"، كما يصفها الحكم التمهيدي الصادر عن محكمة العدل الدولية، لكن الأخطر من الجرائم ذاتها، هو تشابك المصالح والاستثمارات العابرة للحدود التي تغذّيها ويتتبع تحقيق "العربي الجديد" خيوطها، إذ لا تقتصر المسؤولية على مُصنّعي السلاح، بل تمتد لتشمل صناديق التقاعد وشركات وبنوكًا كندية تستثمر في إسرائيل وكذلك في شركات داعمة للاحتلال وللاستيطان غير الشرعي، وبالتالي تسهم في تغذية جرائمه، كما هو الحال في بنك نوفا سكوشيا الكندي (Scotiabank) الذي تملك عبر ذراعه الاستثمارية (1832 Asset Management L.P) 1.900.838 سهمًا من أسهم "إلبيت سيستمز"، أي ما نسبته 4.28% من إجمالي الأسهم العادية للشركة، وقُدّرت القيمة السوقية لهذه الحصة بحوالي 402 مليون دولار أميركي في 31 ديسمبر/كانون الأول عام 2023، بحسب ما ورد في نموذج الإفصاح المالي المقدم لهيئة الأوراق المالية الأميركية (SEC) بتاريخ 9 فبراير/شباط 2024، وانخفضت هذه الحصة في الربع الأول من عام 2024، بحسب الإفصاح المالي لنهاية مارس/آذار 2024، وأصبحت قيمتها 237 مليون دولار أميركي، أي أن سكوشيا بات يمتلك 2.5٪ فقط من إجمالي أسهم "إلبيت سيستمز". ومع نهاية العام الماضي بلغ عدد أسهمه في الشركة 15.145 سهما بحسب تقريره السنوي الصادر في 31 ديسمبر 2024، وجاء هذا التراجع بقرار من إدارة المحفظة الاستثمارية وبدوافع اقتصادية بحتة.
مليارات كندية تدعم الانتهاكات الإسرائيلية
بنك سكوشيا ليس الوحيد. إذ يكشف تتبّع أجراه معد التحقيق أن بنك Canadian Imperial Bank of Commerce (CIBC) يمتلك أسهمًا في عدد من البنوك الإسرائيلية الكبرى، على النحو التالي: بنك هبوعليم: 67.194 سهمًا، وبنك ليئومي: 80.545 سهمًا، وبنك ديسكونت الإسرائيلي: 65.427 سهمًا، وبنك مزراحي تفاحوت: 8193 سهمًا، وفي شركة إلبيت سيستمز لديه 1411 سهمًا، بحسب ما جاء في تقريره المالي للفترة الممتدة من 31 ديسمبر 2023 لغاية 30 يونيو/حزيران 2024، وتكمن خطورة هذه الاستثمارات في أن بنكي هبوعليم وليئومي مدرجان ضمن قاعدة بيانات المؤسسات التجارية المتورطة في أنشطة تتعارض مع القانون الدولي وفقًا لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم 31/36 لعام 2016، والمحدثة في 30 يونيو 2023، ما يضع المستثمرين فيهما أمام مسؤولية قانونية وأخلاقية.
لا تتوقف استثمارات CIBC عند هذا الحد، إذ يمتلك أيضًا حصصًا في شركات مرتبطة بالقطاع العسكري، والعسكري-التقني الإسرائيلي، مثل جنرال ديناميك (General Dynamics) الأميركية، وهي واحدة من الموردين الرئيسيين للمعدات العسكرية إلى إسرائيل، إذ ويمتلك 58.289 سهمًا فيها، بقيمة سوقية قُدّرت بـ 15 مليون دولار أميركي، وفقًا لتقرير الإفصاح المالي المقدم للربع الرابع من عام 2024 بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
تمتلك بنوك كندية أسهمًا في شركات صناعات حربية إسرائيلية
من جهة أخرى، يبرز بنك مونتريال (BMO) بوصفه أحد أكبر البنوك الكندية انخراطًا في السوق الإسرائيلية، إذ يمتلك 10.182 سهمًا في "إلبيت سيستمز"، بقيمة سوقية تعادل 477.400 دولار أميركي، بالإضافة إلى امتلاكه 15.211 سهمًا في شركة Enlight Renewable Energy الإسرائيلية للطاقة المتجددة، بقيمة سوقية تعادل 65 ألف دولار، ولديه 413.759 سهمًا في شركة Teva Pharmaceutical Industries في تل أبيب المتخصصة في صناعات الدواء، بحسب نموذج الإفصاح المالي الذي قدمه إلى SEC لغاية 30 يونيو 2024. لكن استثماراته التي تغذّي جرائم الاحتلال تشمل أكثر من 122 مليار دولار موزعة في شركات مدرجة في قاعدة بيانات الأمم المتحدة لدعمها الاستيطان غير الشرعي والجرائم الإسرائيلية وفقًا لتقرير بعنوان: استثمارات بنك مونتريال في جرائم الحرب تزيد عن 120 مليار دولار، صادر في نوفمبر 2024 عن Just Peace Advocates "مناصرو السلام العادل"، وهي منظمة حقوقية مقرها كندا.
أما أكثر الحالات إثارة للجدل، فهي Royal Bank of Canada (RBC)، والذي يصفه بروس كاتس رئيس مؤسسة الوحدة الفلسطينية اليهودية (منظمة كندية داعمة للحقوق الفلسطينية)، بأنه "مخجل بشكل خاص في دعمه للبنوك والصناعات الإسرائيلية". فوفقًا للإفصاح المالي المقدم إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2024، يمتلك البنك على سبيل المثال لا الحصر 3.466 سهمًا في شركة إلبيت سيستمز، بقيمة سوقية تعادل 613 ألف دولار، بينما بلغت قيمة استثماراته بشركات مدرجة في قائمة الأمم المتحدة لدعمها أنشطة تخالف القانون الدولي 1.8 مليار دولار. مثل شركة بالانتير Palantir Technologies الأميركية، ويمتلك فيها 3.348 ملايين سهم، بقيمة سوقية 84.816 مليون دولار، وهذه الشركة "تزوّد إسرائيل بتقنيات التعرف على الوجه الموظفة في تحديد واستهداف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والتي تمكّن من تتبّع الأفراد بدقة عالية، ما يشكل انتهاكًا خطيرًا للخصوصية والحق في الحياة" بحسب كاتس.
شركاء في جرائم ضد الإنسانية
"حين تُستخدم طائرات، تموّلها جزئيًا مؤسسات مصرفية كندية، في قصف المدنيين وعمال الإغاثة، فإن الأمر لا يبقى ضمن نطاق الاقتصاد فقط، بل يدخل في دائرة التواطؤ الأخلاقي وربما القانوني"، كما يفسره كاتس. وانطلاقًا من هذا الواقع، تتصاعد الدعوات داخل كندا لمساءلة المؤسسات المالية المتورطة في تمويل الانتهاكات الإسرائيلية، من خلال استثمار مليارات الدولارات في شركات تصنيع عسكري وبنوك ترتبط مباشرة بالمشروع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشارك كاتس في تنظيم سلسلة احتجاجات مناهضة لهذه الاستثمارات، امتدت إلى مدينة مونتريال في مقاطعة كيبيك أمام المكتب الرئيسي لبنك سكوشيا.
يطرح هذا الواقع تساؤلات قانونية؛ إذ يصنف التورط بالنزاع في سياق ارتكاب جرائم حرب بموجب القانون الجنائي الكندي، وكذلك يصنفه قانون الجرائم ضد الإنسانية (جزء من القانون الدولي الإنساني)، بحسب توضيح كارين رودمان، المؤسسة والمديرة التنفيذية لمنظمة "مناصرو السلام العادل"، مؤكدة أن هذه المسؤوليات لا تقع على الأفراد وحدهم، بل تشمل أيضًا الأشخاص الاعتباريين مثل البنوك والشركات.
هو ما يؤكده ويليام شاباس، أستاذ القانون الدولي في جامعة مونتريال، والرئيس السابق للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بقوله إن "الاستثمار الكندي في شركات مثل إلبيت سيستمز، يُعد تواطؤًا مع الجيش الإسرائيلي في غزة"، مشيرًا إلى أن "هذه الاستثمارات، بقدر ما تقدم تشجيعًا أو مساعدة لإسرائيل في ارتكاب جرائم حرب بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية، فقد تُعرّض الطرف الكندي للمسؤولية الجنائية". ويُعزز شاباس هذا التحذير بشرحه سابقة تاريخية مفصلية ففي محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي أُجريت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاسبة كبار قادة النظام النازي ومساعديهم، لم يكن جميعهم من العسكريين، بل كان بينهم غوستاف كروب، وهو رجل أعمال ألماني بارز، تولّت شركاته تزويد الجيش النازي بمكوّنات لتصنيع الأسلحة، ورغم أنه لم يُحاكم فعليًا لأسباب صحية، لكن اعتباره مدنيًا لم يشكل أي مانع قانوني أمام مساءلته جنائيًا.
استثمارات كندية في بنوك تدعم وتمول الاستيطان الإسرائيلي
يُشدّد شاباس على أن القانون الدولي لا يُحمّل الأفراد فقط هذه المسؤولية، بل يُلزم الدول كذلك باتخاذ خطوات لمنع وقوع جرائم الإبادة الجماعية، ويُشير إلى أن كندا، وإن لم تكن الحليف الأكبر لإسرائيل، إلّا أنها تقدّم دعمًا ماديًا وسياسيًا واسع النطاق، ما يجعلها معرّضة نظريًا للمساءلة القانونية الدولية.
للتأكيد على خطورة هذا المسار، يلفت شاباس إلى وجود قضية منظورة حاليًا أمام محكمة العدل الدولية، رُفعت في مارس 2024 من دولة نيكاراغوا ضد ألمانيا، تتهمها بتسهيل ارتكاب جرائم حرب في غزة. وتتمحور القضية حول تزويد ألمانيا لإسرائيل بالأسلحة، إضافة إلى قطع تمويلها عن وكالة أونروا، ما اعتبرته نيكاراغوا انتهاكًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، واتفاقيات جنيف لعام 1949، وفقًا لما نُشر على الموقع الرسمي لمحكمة العدل الدولية.
تمويل التهويد والاستيطان
لا يقتصر الأمر على المجال العسكري، إذ تلعب الشركة الهندسية الكندية دبليو إس بي العالمية (WSP Global) ومقرّها في مدينة مونتريال، دورًا أساسيًا في تخطيط مشروع قطار القدس الخفيف (JLR)، الذي يخدم المستوطنات الإسرائيلية في الشطر الشرقي من المدينة، ويعزز تقسيم القدس تمهيدًا لتهويدها. فإلى جانب مراجعات التصميم ومراقبة الجودة وتخطيط وصيانة نظام القطار، فإن دور الشركة يتركز فعليًا في توسيع البنية التحتية للاستيطان داخل الأراضي المحتلة، ما يجعلها، بحسب كاتس، متورطة في مشروع يخترق أحياء فلسطينية في المدينة مثل شعفاط وبيت حنينا، ويجعل منها "شريكًا في دعم دولة فصل عنصري".
التواطؤ الكندي في مشروع قطار القدس الخفيف
ويضيف كاتس، العضو في تحالف المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، أن هذا المشروع ليس بنية تحتية محايدة، بل جزء من سياسة استعمارية متكاملة لتكريس الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء تطوير المواصلات.
بالاستناد إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 19 يوليو/تموز 2024، يُطلب من المجتمع الدولي"الامتناع عن الدخول في معاملات اقتصادية أو تجارية مع إسرائيل تتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة أو أجزاء منها، والتي قد تُرسّخ وجودها غير القانوني في هذه الأراضي"، حسب ما توضح رودمان، وتشير إلى أن هذا الالتزام يشمل "جميع العلاقات المالية والتجارية والاستثمارية والاقتصادية مع إسرائيل، التي تُبقي على الاحتلال غير القانوني أو تُساهم في استمراره".
لكن رغم هذا التوجيه القانوني، لا يزال مجلس إدارة استثمارات خطة التقاعد الكندية (Canada Pension Plan Investment Board - CPPIB)، والذي يُدير أصولا تتجاوز 570 مليار دولار كندي (419.640 مليار دولار أميركي)، لتوفير معاشات تقاعد لـ 22 مليون كندي، يستثمر في بنوك إسرائيلية مثل هبوعليم وليئومي، وشركات تنشط في دعم المستوطنات غير الشرعية، وعلى رأسها WSP، والتي امتلك أسهمًا فيها بقيمة 3.4 مليارات دولار أميركي عام 2024، كما لديه استثمارات بقيمة 14 مليار دولار كندي (10.194 مليارات دولار أميركي) في صناعات مرتبطة بإسرائيل، مثل أنظمة المراقبة والأمن المستخدمة في المستوطنات الإسرائيلية، والتي توفرها شركة Motorola Solutions الأميركية.
"وهذا الاستثمار يجعل كندا شريكة في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي"، بحسب كاتس. ويدحض ما صرحت به وزيرة الخارجية الكندية السابقة ميلاني جولي في سبتمبر 2024 "أنه لن يجري إرسال أيّ سلاح أو مكوّن أسلحة مصنَّع في كندا إلى قطاع غزة الفلسطيني الذي يتعرّض لقصف متواصل من الجيش الإسرائيلي"، وذلك لأنها وفق ما تظهره نتائج التحقيق تدعم جرائم الحرب بالمليارات، عبر استثمارات مباشرة وغير مباشرة لشركات داعمة لأنشطة الاحتلال.
ملاحقة وتضييق
واجه كاتس وزملاؤه في حركة BDS حملات تحريض كبيرة، واتهموا بمعاداة السامية والكراهية نتيجة تضامنهم مع القضية الفلسطينية ومعارضتهم الاستثمار في إسرائيل، لكنه وبحسب روايته، لم يستسلموا، ويواصلون نشاطاتهم المستمرة منذ ربع قرن. وينعكس هذا التضييق على عمل الأكاديميين في الجامعات بحسب تأكيد نور قدري، أستاذ التخطيط الاستراتيجي في جامعة أوتاوا، وهو لبناني كندي، قائلا: "نتلقى في الكثير من الأحيان تحذيرات من انتقاد الاستثمار في إسرائيل، وهذا النوع من الضغط هو إحدى آليات اللوبي الصهيوني لمواجهة حركة (BDS)".
تصاعد الأمر حتى أجبرت الدكتورة سابرينا صديقي، أستاذة علم الاجتماع في كلية شيريدان جنوب كندا على ترك منصبها، وذلك إثر انتقادها لتجاهل الإبادة الجماعية في غزة، وتروي ما حدث معها لـ"العربي الجديد": "اتهمت بمعاداة السامية، فقط، لأنني أردت أن ألفت الأنظار للإبادة الجماعية في غزة، وأجبرت على ترك عملي لرفضي الصمت".
لكن "مهما بلغت التهديدات والانتهاكات"، يقول مهند عياش، عالم الاجتماع الكندي ذو الأصل الفلسطيني، والأستاذ في جامعة ماونت رويال بكندا،: "قدرنا أن نقاوم، وننقل ثقافتنا عبر الأجيال، وهذه أكثر الأساليب فاعلية".