د. عبدالله عيسى/ كاتب وباحث لبناني
تحتضن واقعة الطف وعمليّة إحيائها الممتد، منذ العام 61 هـ إلى عامنا هذا 1447ه، أبعادًا عميقة ومتجذّرة فلسفيًّا، من نشأة الوجود التكوينيّة إلى الغاية الأسمى للخلق، وما بينهما تقع سيرورة الهداية والجهاد، أي حركة الأنبياء عبر التاريخ، لما تمثّله رمزيّة عاشوراء والنهضة الحسينيّة في فعلها الإنقاذي للإسلام؛ بكل حضوره الدلاليّ، من الانقياد المطلق والانقطاع التام والقيام لله من جهة، والكفر بالطاغوت ومواجهته من جهة أخرى. وهما، أي القيام لله والكفر بالطاغوت، كنه المعنى المكثّف والمختصر لـ "لا إله إلّا الله".
تتنوّع أشكال الإحياءوفقًا لظروف المرحلة والتفاعل الحضاري العام، وهو ما يمكن أن نطلق عليه سمات العصر ومتطلّباته وتحدّياته، بكل نسيجه الثقافيّ والسياسيّ والمجتمعيّ. لكن الوظيفة المركزيّة هي الوظيفة التي بلورت بصورتها الأكمل عبر أمرين. الأوّل صناعة فعل ثوريّ تغييريّ وفقًا للأسس والمبادئ التي يقوم عليها الدين وتفسيره وتدوينه وتطبيقه وشرحه. والثاني بناء وتأسيس مجتمع جديد وقيادته طبقًا لتلك الأسس.
جهود مثمرة مع الزمن
بخلاف ما يصوّرها بعض قصيري النظر حدثًا مبتورًا عن سياقه وأغراضه، تتحلّى عاشوراء بميزات أهم ما فيها مقدّمات وضرورات يتوقّف عليها الوصول إلى القمّة لحكم المجتمع الإنسانيّ وإدارته، فهي تنتمي إلى مسار مشبع بحمل الرسالة الإلهيّة، بمضامينه السامية وبمستلزماته من التضحية والفداء وتحمّل الآلام والجوع والحرمان ... وهي بذاتها حدث على قدر ما فيه من المظلوميّة؛ إلّا أنّه يقع في خريطة صيانة الدين وحفظه، كونه أصلًا ثابتًا في هداية المجتمع إلى كماله المنشود، وتشييد تماسكه وانتظامه وفقًا لمنهج قويم وقيادة صالحة.
تشكّل سيرة عاشوراء تكثيفًا مخصّبًا لمنظومة تكامليّة من العقائد والأحكام والقيم، ولمعرفة القائد نبيًّا وإمامًا -معرفة حياة الإمام وسيرته العمليّة- ما يجعلها تمنح الفرد والجماعة والمجتمع بـ:
أوّلًا - الفائدة التعليميّة
تعلّم عاشوراء منهج الحياة وكيفيّة السير فيها، من خلال معرفة برامج "الإمام" وعلاقاته مع الدين والعقيدة، ومع الأتباع والأنصار، ومع الحكّام والسلطات وعلماء البلاط ووعّاظ السلاطين، والخصوم والأعداء والقوى الطاغوتيّة، في جبهة تاريخيّة كبيرة. هذا فضلًا عن معرفة أسلوبه في ممارسة دوره التاريخيّ في مسار قافلة البشريّة، وكيفيّة اتخاذ موقف من قضية تاريخيّة أو حادثة اجتماعيّة معيّنة، وكيفيّة قيادة المجتمع والأخذ بيده، وكذلك، تعرّف مناطق اشتغال التعبّد والحريّة والاستقلال في التفكير.
ثانيًا- الفائدة التحفيزيّة (محرّضة ومحرّكة)
هي تساعد الإنسان في منعطفات الحياة، وتمنحه مجدًا وفخرًا ومباهاة، وتخلق فيه روح الكبرياء التي تبعث في نفوس أتباع الإمام بأن سيرهم على طريقه الذي سار فيه هو طريق الله الزاخر بالمفاخر.
مما تقدم؛ عاشوراء تسهم في بناء وتوطيد العلاقة العاطفيّة المعنويّة مع الرسول والإمام، أي الشخصيّة الرمز، الواقعيّة البارزة، والقدوة أو الأسوة الصالحة. وهذا ما يعين على الانبعاث وتحقيق الثقة بالذات المؤمنة، وهو ما يعفي من نحت شخصيّة وهميّة تستثار بين الدفائن لتستخرج آثار حضارات قديمة ليرى الإنسان نفسه في مرآة القرون، ويعفي من استعارة شخصيّة ذي شعبيّة واسعة أثيرة وحبيبة ومحمودة السمعة عند شعوب أخرى للاشتراك في الحاجة والقضيّة.
يحل الندم أمام عدم الانتفاع التام من فائدتي معرفة الإمام وفهم حياته بصورة تعليميّة وتحفيزيّة ثورية؛ على قاعدة "ثم ارجع البصر كرّتين"، أي أعد النظر في رؤيتك وتصوّراتك.
في هذه الحال، أي تحقّق المعرفة والحافزيّة، يكثّف الشيطان وأعوانه الظاهرون نشاطًا حركيًا مضادًا لهذا التحقق الحيويّ المعرفيّ والحافزية، ليسير في عمليّات إضعاف الشعوب وسلب شخصياتها واستقلالها الروحيّ والفكريّ.
يشكّل إحياء عاشوراء أهم مقاومة لمؤامرة تغييب الشخصيّات البارزة في التاريخ ومحطّاتها الرائعة، فضلًا عن وقوف الإحياء صدًّا أمام تشويهها؛ بل تعدّ انقلابًا على تلك المحاولات التاريخيّة البائسة.
تكشف عاشوراء سمة المواليّ الحقيقي الذي يعي الهدف، ويحوز معرفة الواجب من إمامه والسير على هداه، لتغدو الضمانة المثلى لإنقاذ الإنسان ودوره المقاوم، فالحسين مسيرة متواصلة.