اوراق خاصة

الساعة الرقمية في طهران..لماذا أرادت "إسرائيل" تدميرها خلال الحرب؟

post-img

د. زينب الطحان/ كاتبة وأستاذة جامعية

عوّدنا الكيان الصهيوني، في حروبه العدوانية، الاقتصاص أو الانتقام من كل ما يرمز إلى حقيقة وجوده الهش والزائف والدخيل في نسيج المشرق العربي وفي منطقة غرب آسيا؛ والتي سمّاها الإمبريالي الغربي "الشرق الأوسط"، لفصل عمق انتماء شعوبها التاريخي عن الامتداد الحضاري المرتبط بالمشرق العربي..

يوجد علاقة بين استهداف الكيان لتلك الرموز وما تعنيه، وبين مصطلح "الشرق الأوسط".

الأول- الانتقام من الرموز

في الجانب الأول؛ تكشف صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن طيران العدو الحربي حاول، خلال عدوانه على الجمهورية الإسلامية في إيران، في الشهر الماضي، استهدف الساعة الرقمية "ساعة زوال إسرائيل" التي تنتصب شامخة في حي "ميدان فلسطين" في العاصمة طهران.. لماذا؟

هذه الساعة مبرمجة إلكترونيًا على عدّ عكسي للزمن يؤرخ لزوال "إسرائيل". لقد أراد الإيرانيون بهذه الساعة الرقمية تجسيدًا حيًا لاستشراف الإمام الخامنئي؛ حين قال في العام 2015، في نشاط جماهيري، في مقر إقامته في العاصمة طهران:" يقولون في الكيان الصهيوني إنهم سيطمئنون من ناحية إيران بعد نجاح المفاوضات  النووية، إلى خمسة وعشرين عامًا قادمًا.. أولاً، فلتعلموا أن كيانكم لن يكون بعد خمسة وعشرين عامًا- بإذن الله- لن يكون هناك شيء اسمه "إسرائيل". ثانيًا، إن روح القتال والجهاد، خلال هذه المدة، لن تترك الكيان الصهيوني مطمئنًا حتى للحظة واحدة".

خمسة وعشرون عامًا؛ مدة حدّدها "الإسرائيليون" أنفسهم مسارًا لازدهار "كيانهم" (فلسطين المحتلة) بعدما يطمئنون إلى أن إيران ستكفّ عن إيدولوجيتها العقدية والفكرية القائلة ""لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ"(سورة المائدة، الأية 82).. ولكن لم يتخيّلوا يومًا أن تنقلب فكرتهم "الاستشرافية" هذه، وما تحمله من ثقافة استعمارية تهزأ بالشعوب الأصلية وتاريخها، أن تبقى "استشرافية"؛ إنما متحوّلة من "إسرائيل العام 2015" إلى "لا وجود لـــ"إسرائيل" في العام 2040"؛ وهذا هو التاريخ المحدد الذي تحمله الساعة الرقمية الإيرانية؛ أي العام 2040، بدءًا من العام 2015، لحظة خطاب الإمام الخامنئي الشهير آنذاك.

لم يعلّق الإعلام الإسرائيلي أنذاك؛ على ما بشر به الإمام الخامنئي؛ فأسرّها "الإسرائيليون" في نفوسهم؛ حتى جاء يوم عدوانهم على الجمهورية؛ فأرادوا كسر اعتزاز الشعب الإيراني بقائده وتقديره له بتدمير هيكل الساعة الرقمية؛ ليكون التدمير- كما يرونه- تدميرًا لرمزية صدق القائد وانتقامًا وتشفيًا من رمز ما تمثله هذه الساعة في وعي الشعب الإيراني؛ وتأكيدًا له أن "شعب إسرائيل" قادر على كسر كل من يدعي تفوقه عليه أو يهدد وجوده.. ولكنّ تقدير الله- عزّ وجلّ- في مسار مواجهة إيران وردها الجريء، أن نصب لأولئك فخًا يكسر فيه جبروتهم ويمرّغ أنفهم بتراب طهران الطاهر.. قصفوا الساعة فعلًا؛ "ولكن القوات الجوية قد أخطأت الهدف"؛ هكذا كتبت صحيفة "هآرتس"؛ وكشفت أن الهدف كان:" بثّ الصور، في إسرائيل وإيران وبقية العالم، في جزء من الحرب النفسية، لكن القوات الجوية أخطأت الهدف".

تتابع الصحيفة": "كان الغرض من تدمير الساعة بعث رسالة مجازية؛ مفادها أن إيقاف مؤشر الساعة عن الحركة نحو موعد القضاء على إسرائيل يشبه إيقاف الزمن ومعه خطة التدمير.."، ومحلل الشؤون الاستخباراتية والعسكرية المدعو "يوسي ميلمان"، يزعم أن فشل "إسرائيل" في تدمير الساعة الإيرانية: "ليس له أي أهمية عملياتية بالنسبة إلى إسرائيل، وإن كانت أهميته تكمن -بالتأكيد- في الطريقة التي سيستغل بها جيشها وقادتها الوقت المتاح لهم لتنفيذ المهام في المستقبل". ويستدرك هذا الصحفي اعترافه بفشل الهجوم ليقول: "ومع ذلك، لم يستسلم وزير الدفاع يسرائيل كاتس، وتعهد بتدمير الساعة. وامتثالاً لأوامره، استعدت القوات الجوية لتوجيه ضربة ثانية في اليوم الأخير من الحرب..لكن المحاولة وجميع الأهداف الأخرى أُلغيت بسبب وقف قرار إطلاق النار الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فأجبرت الطائرات الحربية على العودة إلى قواعدها".

تشعرك هذه الديباجة في الصياغة، وإن كانت محكمة اللغة والمنطق، بطيف خفي يتبادر إلى ذهنك فورًا أن هؤلاء يتذرعون بقرار "ملكهم" في البيت الأبيض الذي أوقفهم في اللحظة الأخيرة، وإلا كانت الضربة مبرمة حتما، وكان لفعلها – إن حدثت- صدى عالميا تدعي فيه "إسرائيل" انتصارها على نبوءة ذلك الرجل التسيعيني الجليل الذي تجرأ عليهم، قصفًا وتدميرًا، كاشفًا حقيقة ضعفهم أمام العالم..

يذكّرنا استهداف هذا الجبان الصهيوني للساعة الرقمية الإيرانية بمحاولاته المستميتة لزرع "العلم الإسرائيلي" في إحدى ضواحي "بنت جبيل" في جنوب لبنان، والتي أصبحت رمزًا حيويًا في الزمان والمكان، بعدما خطب فيها الأمين العام الأسبق لحزب الله الشهيد الأقدس السيد حسن نصرالله، وقال كلمته الشهيرة: "والله إن إسرائيل هذه لأوهن من بيت العنكبوت"؛ في خطاب النصر والتحرير في العام 2000، بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان. قوة من النخبة العسكرية، بكل عتادها وأسلحتها المتفوقة، منعها مجاهدو المقاومة من الوصول إلى ذلك المبنى لزرع العلم، وكبّدوها خسائر فادحة في المعدّات والأرواح، فأنكفئت عن مهمتها تجرّ أذيال الخيبة.

أراد الانتقام وكأنه الجبار المتحكّم في السماء؛ فأذله الله بجبروته النوراني المتغلغل في قبضات رجال لا يؤمنون إلا بقدر ربهم ".. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ رَمَى.."(سورة الأنفال، الآية 17).

الثاني- "الشرق الأوسط" مصطلح أوهن من بيت العنكبوت

يصر الإمام السيد علي الخامنئي دومًا، حين يتحدث عن محيط البلدان الجغرافي المقصود بها "الشرق الأوسط"، على استخدام مصطلح مضاد وهو منطقة غرب آسيا، والذي يحوي ضمنًا بلدان المشرق العربي. وهو المصطلح الأصيل والحقيقي المعبر عن موقعية هذه المنطقة الجغرافي، وحتى ببعديه الثقافي والتاريخي.

هي المنطقة التي كونت تاريخًا عريقًا ممتدًا من عمق آلاف السنين والدهور والقرون، فيه من الحضارات والآداب والثقافات والفنون المتقاطعة، ما لم يتمكّن إلى اليوم "الشرق الأوسط"، والذي أرادوا به مصطلحًا نفسيًا، ضمّنوه رموزًا زائفة، يفصل بين تلك الحضارات وشعوبها؛ ويفككها، ويقزمها، ويقتل به ذلك الثابت النفسي والمعنوي والحضاري بأصالة انتماء شعوب هذه المنطقة إلى بلدانهم وتجذرهم فيها.. في حين هو جسم لقيط، يحاول مع "الشرق الأوسط" تثبيت موطئ قدم له في غرب آسيا والمشرق العربي؛ حتى ما قبل العام 1948 بعقود، رسموا خلالها خطة "الشرق الأوسط"؛ حيت بدأوا من تشويه المعاني الرمزية حينًا، وتدمير ما يجسدها حينًا آخر..كي يأتي يوم ويقولون لنا.."لا رموز لكم في هذه الأرض.."..

بناء على هذا السياق التاريخي لاحتلال استعماري، هو لا يقلل من شأن أي رمز، مهما كان بسيطًا، عند شعوب منطقتنا، لذلك يسعى كل سعيه لطمسه بشتى الوسائل. هو يدري، بوعي وذكاء، أن الرموز، وما تحمله من معانٍ تصل أحيانًا إلى حدّ القداسة، عند شعوب هذا الامتداد الجغرافي في منطقة غرب آسيا، تُبقي الذاكرة الجمعية حية متوقدة، تحفظ لها هويتها مع الأجيال.. وهذا ما لا يريده..

الرموز كلها؛ بإشاراتها السيميائية وتأويلاتها الميتافريقية، هي عالم معنوي يحفر عميقًا ذاته حتى الالتصاق الأبدي في كينونة الذات الإنسانية الشريفة، وترتبط وجدانيًا بصناعيها، ربطًا يعطي لكل جيل حيوية البقاء لإعمار الأرض، حيث يصبح صانع ذلك الرمز أيقونة يُضمن معها استمرار فلسفة وجود الإنسان الجدير باستخلاف الكون كله.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد