إيهاب شوقي/ كاتب وصحافي مصري
وصلت الأمور في قطاع غزة إلى وضع تاريخي بائس؛ يشكّل عارًا حقيقيًا على أمّة بأكملها، تعجز عن فك حصار قطعة أرض عربية وإسلامية غالية، يموت أهلها قتلًا وجوعًا وسط استغاثات يومية من أطفالها ونسائها بأمتها، من دون جدوى.
ما يزيد من بؤس هذه الأمّة أن كل من ينبري، بشرف وشجاعة، لإغاثة المستضعفين، يتعرض هو الآخر للعدوان كما وجدنا في لبنان واليمن والجمهورية الإسلامية في ايران، في حين يكتفي الباقون بالمشاهدة، على الرغم من دعوة المقاومين الدائمة للأمّة بالالتحاق بشرف المقاومة وإقامة الحجة عليهم.
في هذا الصدد؛ يبرز سؤال حتمي عن جدوى الاستغاثة بالعرب والمسلمين.. وهل كانت الاستغاثة في محلها أم أن غزة والقضية الفلسطينية برمتها ليست قضية عربية وإسلامية؟.. وسط الصمت وإبراء الذمم ببيانات جوفاء تخلو من أي إجراء عملي، في ما يحتفظ المطبّعون بتطبيعهم، ويحتفظ الشارعون في التطبيع بوعودهم شريطة تحقيق أي اختراق شكلي للوضع الراهن لحفظ ماء الوجوه.
أزاء هذا الواقع؛ يتحول السؤال إلى نوع آخر من الأسئلة، حين يتحول من نطاق الاستفهام الاستنكاري إلى نطاق التحليل الأيديولوجي، حيث يتجه مباشرة إلى أيديولوجيا الأمّة، والتي شهدت تنافسًا بين أيديولوجيات القومية العربية والوحدة الإسلامية، حين كانت فلسطين مجالًا للتنافس والتصارع بين القوميين العرب وحركات الإسلام السياسي..هل لكونها قضية عربية أم إسلامية؟ وهل لحق تشوه أيديولوجي بأمّة رفعت هذه الشعارات.. وهل أخرج هذا التشوه قضية فلسطين وقضايا التحرر الوطني من الأيديولوجيا أم أن هذه الأيديولوجيات لم تكن كافية للإجابة عن التحديات الكبرى؟ وهل كان بها عوارًا فلم تصمد مع المستجدات والتحديات الجديدة؟
للإجابة، هنا، قد نحتاج إلى إلقاء بعض الضوء على الجانب النظري للأيديولوجيات، ومفهومها للخروج بتصور عن الشكل الأمثل لأيديولوجيا القادرة على التصدي، والتي تصبح بحق جديرة بلقب "أيديولوجيا التحرير".
مع أن تاريخ نشأة مصطلح الأيديولوجيا يعود إلى العام 1796؛ حين صاغه الكاتب الفرنسي أنطوان لويس كلود، والذي تبنّت أفكاره حكومات الثورة الفرنسية لبناء مجتمع عقلاني وديمقراطي، إلا أن الأيديولوجيا هي سنّة كونية، تتعلق بالأفراد والسلطات ووعي الشعوب الجمعي، منذ بداية الخلق، فهي عقيدة ورؤية تقود السلوك والانحيازات.
قد يكون التعريف الأكثر تداولًا وشهرة للأيديولوجية هو أنها "النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة، والذي لا يتعلق بعلم الأفكار فحسب، أيضًا بالنظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يُعبّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان"، وبالتالي الأيديولوجية هي منظومة عقدية تُشكّل أساس نظرية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
تاليًا؛ هي تحدد المذهب السياسي، والذي يُعرف أنه البرنامج السياسي المتكامل الذي تقدمه تلك العقيدة. وهو إعلان عن جاهزية فكر هذه العقيدة وفلسفتها ومبادئها لتوضع كلها موضع التطبيق، ويتناول الأهداف والوسائل اللازمة لتحقيقها. وهذه المذاهب السياسية المنبثقة من الأيديولوجيات سيطرت على العالم وعلى أمّتنا، فأنتجت أيديولوجيات متصارعة، مثل الرأسمالية والشيوعية وأيديولوجيات أخرى فرعية؛ مثل الليبرالية والماركسية والإسلاموية والقومية والفاشية وغيرها.
لقد برزت، في تاريخ أمتنا، حديثا أيديولوجيتان رئيستان لمواجهة التحدي الاستعماري ووجود الكيان السرطاني الصهيوني. وهما: القومية العربية، بما تطرحه من حلّ عملي يقوم على الوحدة العربية لتحرير المغتصبات والتكامل والتعاون لمواجهة الاستعمار، وأيدلوجية الإسلام السياسي في وحدة إسلامية على نمط الخلافة لتحرير المقدسات.
إلا أن الأيدلوجيتين أصابهما التشظي، فقد افترق القوميون بين اتجاهات تميل إلى العنصرية واتجاهات معتدلة، واختلفت ظروف الأقطار العربية ومصالحها وانحيازاتها، فلم تحدث الوحدة المنشودة، كما لم تستطع الأيدلوجية القومية الإجابة عن سؤال الأقليات غير العربية وشكل الوحدة العربية المنشودة وتطبيقاتها العملية.
على الجانب الإسلاموي حدث تشظي أكثر إيلامًا، حين دخلت الطائفية البغيضة لتدمر الوحدة الإسلامية، وانتشرت الحركات التكفيرية والإقصائية، كما افترقت مصالح الأقطار الإسلامية، ووجدنا بعضها حليفًا للاستعمار، وينتمي للناتو، ويتعاون مع الصهاينة، كما لم تستطع تقديم إجابات عن سؤال الأقليات الدينية ودورها ومقدساتها.
على الجانب العملي التطبيقي، ومنذ نشأة الكيان الغاصب، لم يجتمع العرب على فعل مقاوم واحد، فبينما كانت هناك دول تقاوم وتحارب، وجدنا دولًا تتحالف مع أميركا وتنشئ أحلافًا لتشويه سمعة دول المقاومة وعرقلتها.
كما لم يجتمع المسلمون، فقد فرّقتهم الأطروحات الطائفية التي غرسها الاستعمار عبر عملائه من الحكومات والأفراد من جهة، وفرقتهم المصالح التي منشأها التباين بين الملوك والسلاطين والجمهوريات من جهة أخرى.
كما وجدنا اختراقًا ثقافيًا واستهلاكيًا ألحق تشوهًا في وجدان الجماهير العربية والإسلامية وانتماءاتها، وعبث بأشواق الوحدة تحت اللافتات المجمعة، وعبث بحميّة الشعوب وحماستها وشهامتها، وبات معظمها مستسلمًا منتظرًا دوره في الذبح.
وسط هذه التشوهات الأيدلوجية كلها برزت أيدلوجية متماسكة، وهي أيدلوجية المقاومة، حين قامت على أسس ثابتة، جمعت أحسن ما في الأيدلوجيات، من عربية وإسلامية، وقامت على عمود رئيس هو مقاومة الهيمنة والكفاح المسلح ضد الصهاينة والاستعمار. وحددت عدوها بدقة وهو الاستكبار العالمي؛ ولم تلتفت إلى معارك جانبية ضيقة؛ فاعتنقت التسامح مع التمايزات العرقية والدينية والطائفية، وحددت بوصلة سلاحها بدقة أزاء الأعداء الأصليين للأمة.
على الجانب العملي؛ وجدنا أصحاب أيدلوجية المقاومة هم الجبهات الفعلية التي انخرطت في القتال والمواجهة، وما يزال الاستعمار يستهدفهم، بشكل رئيس، في ما يترك من تشوهت أيدلوجياتهم، سواء أكانوا قوميين أو إسلاميين مزيفين.
إن أيدلوجية المقاومة هي "أيدلوجية التحرير"، وهذه الأيدلوجية تفسر لنا لماذا اختلف العرب والمسلمون، ولم يتحدوا؟ لقد اعتنق بعض العرب والمسلمين هذه الأيدلوجية؛ مثل: جمال عبد الناصر، في ما خذله عرب الخليج، واعتنقت حركات إسلامية المقاومة، مثل حزب الله وحماس والجهاد وإيران واليمن، في ما خذلهم مسلمون متعاونون مع الاستعمار وتكفيريون يعملون عملاء ووكلاء لأميركا والصهاينة.
أيدلوجية المقاومة هي معسكر واسع، يجمع العرب والمسلمين والأحرار كلهم من جميع الطوائف والمذاهب والأعراق، على مواجهة الظلم وتحرير المغتصبات، وهي بحق "أيديولوجيا التحرير".