راجانا حمية (جريدة الأخبار)
في السادسة وخمس دقائق من مساء الرابع من آب 2020، انقلبت حياة سالم بكري رأساً على عقب.
الشاب الذي صادف مروره قرب مرفأ بيروت ذلك اليوم، في طريقه لتوصيل «طلبية» على دراجته النارية، بات منذ خمس سنوات طريح الفراش، وحيداً في منزله. لا عائلة تحتضنه بعد فقدان والديه في وقت مبكر، ولا أحد يسأل عنه منذ رحيلهما الأبدي.
عاش سالم وحيداً عمراً كاملاً من دون أن يؤرقه ذلك، لكن بعد الانفجار، اختبر اليتم الكامل: من الناس، ومن الدولة التي لم تكترث لحاله منذ أن فقد القدرة على المشي والعمل. خلال خمس سنوات، خضع لأربع عمليات جراحية، ولجلسات علاج فيزيائي لا تُحصى، من دون جدوى، بعدما «انبرت» عظام قدميه وذاب مفصل ركبته، وهو اليوم يستعد لعملية جديدة لزرع قطع معدنية بدلاً من العظام المهترئة.
طوال هذه الرحلة الشاقة، اعتمد سالم على التبرعات من أفراد، أو جمعيات. وأحياناً، كان يضطر إلى الانتقال من مكان إقامته في الشويفات إلى مستشفى في عكار، لأن كلفة العلاج هناك كانت ضمن قدرة أحد المتبرعين. وهو لا يملك فلساً واحداً، لا للدواء، ولا للعلاج، ولا للعمليات... ولا ليعيد بناء حياته كما كانت قبل الانفجار. أمنيته الوحيدة أن يستعيد القدرة على المشي، ليعيل نفسه ويؤمّن ثمن أدويته التي يحتاجها بانتظام. أما نصف رأسه «المكشوف»، فلم يعد يهمه «تغليفه» مجدداً. كل ما يريده هو أن يقف على قدميه… فقط.
ومثل سالم، كثر أصابهم العطب مدى الحياة. من بينهم سيلفانا، الأستاذة التي كانت تُشبَّه بأنها «قد الدني»، والتي باتت اليوم مصابة بالشلل، محاصرة بفقر الحال وانعدام السند. لوقتٍ طويل، بقيت سيلفانا حبيسة منزلها في الطابق الثاني، لعدم توافر كرسي متحرّك، ولا من يُعينها، كما ينقل أحد المتابعين لحالتها في اتحاد المقعدين اللبنانيين. سيلفانا، أيضاً، تعتمد على التبرعات. وهي منذ شهرين ونصف شهر طريحة الفراش في أحد المستشفيات.
أما مأساة غابي (اسم مستعار)، فمركّبة؛ الشاب الذي يكافح مرض التصلّب اللويحي، ويعاني من الانقطاع المزمن لأدويته وارتفاع كلفتها، أضيفت إلى أعبائه إصابة جديدة جرّاء انفجار المرفأ. ومنذ ذلك الحين، يُضطر إلى دخول المستشفى بشكل متكرر للعلاج من التهابات مزمنة ناتجة من الإصابة.
ثمة قصص لا تُعدّ ولا تُحصى لجرحى فقدوا أعينهم، أو أطرافهم، أو أحبّاءهم. من بينهم ريما التي خسرت ابنتها وصهرها في الانفجار، ولم يبقَ لها سوى حفيديها اللذين ترعاهما اليوم كأمّ بديلة، إلى جانب ابنتها الثانية التي أصيبت بإعاقة جزئية في قدمها. وهناك ريما أخرى أصيب ابنها برأسه ما أثر على قواه العقلية وفقد شعره وأسنانه «جراء تناول 120 حبة دواء شهرياً».
مأساة الرابع من آب لا تكمن فقط في عصف الانفجار الذي جرف قلب العاصمة وخلّف مئات الشهداء وآلاف الجرحى، بل في ما تلاه من إهمال متمادٍ، ترك من نجا من الموت لمصير مجهول، ولا تُذكر أسماؤهم إلا في الذكرى السنوية.
فرغم إصابة المئات الذين انتقلوا في لحظة واحدة من خانة «أشخاص عاديين» إلى خانة «ذوي الإعاقة»، بقي هؤلاء خارج أولويات الدولة التي تتحمل مسؤولية هذه الجريمة. لا أحد سأل، أو يسأل، كيف يمضون أيامهم. والحياة، في حالتهم، لم تعد مجرد تأمين طعام وشراب، بل معركة يومية شاقة، في مسار علاجي طويل ومكلف، نفسياً ومادياً. ومنذ ذلك اليوم، يخضع كثيرون منهم لعلاجات تفوق قدرتهم على الاستمرار في تحمّل كلفتها.
كل ما فعلته الدولة خلال أربع سنوات هو توزيع بطاقات «إعاقة» على الجرحى، تلحقهم إدارياً بوزارة الشؤون الاجتماعية، من دون أن تضمن لهم ما يسدّ رمقهم أو يضمن كرامتهم. فأقصى ما تتيحه البطاقة «فرشة ماء»، أو «حفاضات»، أو «كرسي متحرّك». طوال السنوات الماضية، لم يحصل جرحى انفجار مرفأ بيروت على أي دعم فعلي من الدولة. باستثناء التكريمات الرمزية التي تترافق مع الذكرى السنوية للكارثة - وآخرها إطلاق أسماء الضحايا على أحد الشوارع المحاذية للمرفأ - لم تُظهر الدولة أي اهتمام جدي بمصير الجرحى، الذين «يعانون أوضاعاً بالغة السوء»، بحسب المتابعين لقضيتهم.
صحيح أن عدد جرحى الانفجار قُدّر بما بين 6 و7 آلاف، إلا أن من يحتاجون إلى رعاية طبية دائمة يُقدَّرون بالمئات فقط. في هذا السياق، يشير إبراهيم حطيط، شقيق أحد الشهداء والمتحدث باسم تجمع أهالي الضحايا والجرحى، إلى وجود نحو 120 جريحاً «نعرفهم بالأسماء»، فيما لم يبلّغ آخرون لشعورهم بعدم جدوى هذا التبليغ، خصوصاً أنهم ليسوا موجودين في قائمة اهتمامات الدولة «التي تراجعنا للسؤال عن أعداد الشهداء والجرحى لتحدّث المعلومات بسبب متابعتنا للقضية». ففي ما يتعلق بعدد الشهداء، مثلاً، تُظهر الدولة جهلاً فادحاً، إذ لا تزال تحصرهم بـ220 شهيداً، رغم أن العدد الحقيقي، وفقاً لحطيط، هو 243 شهيداً «ع الورقة والقلم، بس الدولة ما معها خبر».
هذا الإهمال يثير حفيظة أهالي الضحايا، الذين يرون أن منطق الأمور كان يفرض على الدولة أن تكون الجهة المعنية بإدارة شؤون المتضررين، ولكنّ الواقع انقلب رأساً على عقب: «نحن اليوم ندير بالنا على حالنا وعلى بعضنا»، يقول أحدهم. لكن، رغم هذا التضامن الأهلي، تبقى أوضاع الجرحى مأساوية، خصوصاً أن كثيراً من العلاجات باهظة الكلفة وتتطلب استمرارية. و«ما كانت توفره الجمعيات الدولية أو المحلية في السنوات الماضية لم يعد كافياً اليوم، بعدما قلّصت حجم المساعدات».
وبسبب التراجع في التبرعات، وغياب أي مظلة رسمية، تزداد أوضاع الجرحى سوءاً يوماً بعد يوم. وتفاقم ذلك أكثر مع الأزمة الاقتصادية والحرب الأخيرة، حتى باتت مسألة العلاج بالنسبة إليهم «أقرب إلى ورطة»، بحسب حطيط.
على مدى عامين، حاول المتابعون لقضية جرحى انفجار المرفأ تأسيس جمعية مستقلة تُعنى بمتابعة حقوقهم أمام الجهات الرسمية، ولكن هذا المسعى لم يُكتب له النجاح. ما كان يُفترض أن يكون إطاراً موحّداً للجميع، انقسم إلى تجمّعين يتابع كلٌّ منهما القضايا على طريقته.
غير أن فشل جمع الجرحى تحت مظلة واحدة لا يُغطي على فشل الدولة الأكبر في تحمّل مسؤولياتها تجاههم، ولامبالاتها المستمرة منذ وقوع الكارثة. إذ إن المبادرة الوحيدة التي قامت بها تمثّلت بقرار يقضي بإحالة متابعة الجرحى إلى كلٍّ من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الشؤون الاجتماعية. لكن حتى هذه الإحالة تعثّرت، إذ إن الصندوق لم يلتزم فعلياً بتغطية العلاجات. ويوضح حطيط أن الضمان «غطّى الجرحى لثلاثة أشهر فقط، ثم توقّف كلياً»، من دون أن تثمر مراجعات الأهالي أي نتيجة. السبب، كما أوضح مدير عام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، محمد كركي، أن «الدولة لم تحدد الجهة التي ستسدّد الاشتراكات عن الجرحى»، وبالتالي اعتُبر القرار ناقصاً ولا يمكن تطبيقه. ويُشير حطيط إلى أن الصندوق أصدر بالفعل قراراً داخلياً يُفنّد فيه الأسباب التي حالت دون تنفيذ القرار الحكومي، ولكنه لم يُرسل إلى الجهات المعنية، وبقي القرار الأصلي، رغم صدوره في الجريدة الرسمية، معلّقاً. يدفع ثمن هذا التعليق الجرحى وحدهم.
وفي محاولة لكسر حلقة المراوغة الرسمية، أعدّ «تجمّع أهالي الشهداء والجرحى والمتضررين من انفجار المرفأ» اقتراح قانون معجلاً مكرراً يهدف إلى تعديل القرار السابق، وذلك عبر استبدال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كجهة متابعة لملف الجرحى، ومساواتهم بجرحى مؤسسة الجيش. وقد قُدِّم الاقتراح في ظل حكومة تصريف الأعمال السابقة، ولكنه بقي بلا مناقشة أو إقرار، بذريعة أن المجلس النيابي لم يكن يعقد جلسات تشريعية آنذاك. ولذلك، «صبر الأهالي حتى تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه رغم عقد جلسات لمجلس الوزراء و5 جلسات تشريعية، لم يُدرج على جدول الأعمال مع أن معظم الكتل أبدت تجاوباً معنا».
مع انسداد الأفق على المستوى التشريعي، توجه التجمّع إلى وزارة الصحة العامة بحثاً عن مخرج، خصوصاً للجرحى الذين يحتاجون إلى علاجات طويلة الأمد ومكلفة. وفي اللقاء الأخير مع وزير الصحة، ركان ناصر الدين، صدر قرار يقضي بتغطية علاج جرحى الانفجار «على نفقة الوزارة بنسبة 100%». كما أبدت الوزارة استعدادها للتعاون مع بعض الجهات المانحة لتأمين الغيارات الطبية، والمستلزمات العلاجية، وبعض المساعدات الخاصة، إلى حين البتّ باقتراح القانون.
لكن هذه المبادرة، رغم إيجابيتها، تبقى رهن قدرة الموازنة العامة على تحمّل الكلفة، وتجاوب الجهات المانحة، وهو ما سيُختبر فعلياً في المرحلة المقبلة. وبانتظار ذلك، يواصل الجرحى حياتهم، متّكلين - مرة أخرى - على ما يتيسر من مساعدات.