حمزة البشتاوي/ كاتب وإعلامي
بعد كثير من الصدمات التي تلقاها الشاعر الفلسطيني العربي الكبير محمود درويش من النظام الرسمي العربي، خاصة بعد لقائه مع عدد من حكاّم تلك الأنظمة، لجأ إلى تناولهم بسخرية لاذعة في نصه "حكم الدكتاتور الموروثة"؛ وصف لقاءاته مع عدد من الحكام العرب بأنها ترتقي إلى مستوى الفضيحة، من حيث تدني مستوى الوعي الثقافي والسياسي.
بعد كل لقاء مع أحدهم؛ كان يخرج أكثر إحباطًا ويأسًا، حيث تغيب عن مجالسهم الأحاديث في الشؤون السياسية والثقافية، وعن قصائد الحنين إلى الماضي واليأس من الحاضر وغموض الحلم عن المستقبل، وتحضر بدل عنها أحاديث الطعام والشراب والنساء وتمجيد الذات بما يدفع الشاعر للضحك والبكاء.
الصدمة من النظام الرسمي العربي ممتدة من النكبة إلى النكسة؛ وصولًا إلى اجتياح بيروت وحصارها في العام 1982، وعّبر في ذلك الوقت عن صدمته بقصيدة "مديح الظل العالمي"؛ حين قال:
.. عرب أضاعوا روحهم
.. عرب باعوا روحهم
عرب .. وضاعوا
سقط القناع عن القناع
في مراحل لاحقة؛ طالبهم بمراجعة شاملة للضمير وأن يكونوا أهل نخوة لا أهل سلطة ومال، وعدم الخلط ما بين الربيع والقحط، والكف عن لعب دور الوسيط ما بين الضحية والجلاد.
لقد دفعه التناحر والتخاذل والخضوع والركوع إلى الانكفاء والعزلة في باريس، وأثمرت تلك العزلة إبداعًا شعريًا جميلًا وساحرًا، شكّل علامة فاصلة في الثقافة والإنسانية والقدرة على الإبداع على الرغم من توحش الغزاة والطغاة.
في ظل المواقف الرسمية العربية المتخاذلة، وصولًا إلى عجز الشعوب العربية بقطاعاتها المختلفة الطلابية والنقابية والنخبوية والحزبية عن نصرة غزة، تحضر كلمة "وحدك" في استعارة لعبارة "كم كنت وحدك!"؛ في إشارة إلى مواقف معظم الأنظمة العربية التي تدعي أنها مع غزة، فيما لم يرَ الشعب الفلسطيني سوى اليمن ولبنان والعراق يساندونه.
في لقاء محمود درويش، الذي يعدّ على المستوى الوطني والإنساني الشاعر المثال في الرؤية والإبداع، مع أحد الحكام العرب، فوجئ بأن هذا الحاكم يحفظ كثيرًا من الأمثال الشعبية ويسخّرها لتأكيد رؤيته وقناعاته وطبيعة علاقاته مع السياسة والناس، ومن أبرز الأمثلة التي يتبناها الحاكم:
"من خاف سلم"، "سلطان غشوم أحسن من فتنة تدوم"، "لو كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي"، "قالوا لجحا الفاحشة في بيتك قال المهم بعيد عن ...."..
ركز الحاكم على مثل: "إن جاءك الطوفان إرم إبنك تحت رجليك"، وهذا المثل يقتل معاني الشهامة والنجدة كلها في الإنسان حتى تجاه فلذة كبده. ويعبر المثل أيضًا عن عدم التصدي للباطل وخذلان الحق إلى درجة الخنوع والذل.
لم تغير هذه الجلسة بين الشاعر المثال والحاكم الموهوب بالأمثال، من نظرة الشاعر لتلك الأنظمة الغارقة في مستنقع الأمية والتبعية والخذلان. ولم تتغير نظرة الناس للشاعر الملتزم بقضاياهم والحاضر بينهم على الرغم من الغياب، وهذا تأكيد على أن الشاعر لا يموت، والكلمة لا تموت على الرغم من حرب الإبادة والتجويع والخذلان، لأنها تمتلك جدارة الحياة والنهوض من جديد.