حسين كوراني/إعلامي لبناني
من المستهجن أنّ من هم على رأس السلطة في لبنان، وممن يفترض بهم أن يكونوا حماة السيادة ويتولون مهمة الدفاع عنها، أصبح معظمهم محل شك شعبهم في انتمائهم الوطني، نتيجة التناقض في مواقفهم وتصريحاتهم والازدواجية في المعايير في أثناء مقاربتهم للسيادة، حتى بتنا، نحن المواطنين، نبحث في الكتب المدرسية عن مفهوم السيادة الوطنية التي تربينا عليها، وأيّ الأعمال والأقوال تمثل خرقًا لها، وأيها تتماشى معها.
لعل أبرز مثال عن البحث في مقاربة مفهوم السيادة، هو البيان الذي صدر مؤخرًا عن وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية عن تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي فيما خصّ تعليقه على قرار الحكومة بتكليف الجيش بإعداد خطة لنزع السلاح، بقوله: "إن محاولات نزع سلاح حزب الله ترتبط برؤية الطرف الآخر لقدرات سلاح المقاومة وتأثيره في معادلات الميدان.. وبصفتنا داعمين، فإننا نقدّم دعمنا من بُعد، ولكن لا نتدخّل في قراراته".
الخارجية اللبنانية، وعلى لسان رئيسها الوزير يوسف رجّي، رأت في بيان أنه: "من غير المقبول أن توظّف العلاقات بين الدول لدعم أطراف داخلية خارج إطار الدولة.. وأن تصريحات عراقجي التي تناول فيها مسائل لبنانية داخلية لا تعني الجمهورية الإسلامية بأي شكل من الأشكال، هي مرفوضةٌ ومدانة وتشكّل مساسًا بسيادة لبنان ووحدته واستقراره، وتعدّ تدخلًا في شؤونه الداخلية وقراراته السيادية".
لا بدّ من التوقف هنا مليًا عند هذا البيان المقتضب، وطرح عدد من التساؤلات عنه: أولًا، عن أي أطراف داخلية خارج اطار الدولة يشير رجّي، عن مقاومة دافعت عن شرف لبنان من وحشية "إسرائيل" حين احتلت أرضه ووصلت الى عاصمته بيروت في العام 1982، وأرغمتها على الانسحاب في العام 2000 من الجنوب والبقاع الغربي مذلولة، وأعادت جميع أسراها من سجون الاحتلال، كما أفشلت عدواني تموز 2006 وأيلول 2024 في تحقيق أهدافهما باحتلال الجنوب حتى نهر الليطاني. وعن مقاومة حمت جميع طوائف لبنان من الإرهاب التكفيري، وما تزال حتى الآن تقدّم الشهداء والجرحى صونًا لسيادة لبنان؟
ثانيًا، أدان البيان تصريحات عراقجي وعدّها مساسًا بسيادة لبنان وتدخلًا في شؤونه الداخلية. إذًا ماذا عن تدخل المبعوث الأميركي توم برّاك في فرض إملاءاته على الحكومة اللبنانية والطلب منها في بحث ما يسمى بـ"الورقة الأميركية" التي تفرض عليها أولًا إقرار بند سحب سلاح حزب الله من دون إعطاء لبنان ضمانات في توقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية أو تكرار العدوان عليه، مع ربط بند نزع السلاح بكافة البنود المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي وإعادة الاعمار؟
مع العلم أن هذه الورقة ما هي في حقيقتها إلا ورقة "إسرائيلية" تمسّ السيادة وتخالف "ورقة الإجماع اللبناني" التي وضعها الرؤساء الثلاثة، والتي تشترط وقف العدوان وبدء الإعمار.
ماذا أيضًا عن تدخل المبعوث السعودي يزيد بن فرحان في الضغط على الوزراء للمضي في المسار الأميركي الذي لا يخدم سوى "إسرائيل"، أليس كل ذلك يعد مساسًا بالسيادة. أليس انصياع رئيس الحكومة نواف سلام وغالبية وزارء عهده وراء الإملاءات الخارجيّة السعودية والضغوطات الأميركيّة غير آبهين لحسابات المصلحة الوطنيّة العليا ودواعي الوحدة الداخليّة التي تشكِّلُ الضمانة الأهمّ للبنان، هو طعن في صميم السيادة الوطنية؟
على الخارجة اللبنانية أن تسأل حكومتها عن التسرُّع المُريب وغير المنطقي لها ولرئيسها سلام، بتبنّي المطالب الأميركيّة، أليس هو مخالفةٌ ميثاقيّة واضحة كما أنَّه يضربُ أُسس اتفاق الطائف الذي يحفظ حقَّ لبنان في الدفاع عن نفسه ويهدد وحدته واستقراره، ويعدّ "تدخلًا سافرًا في شؤونه الداخلية وقراراته السيادية" كما وصفها البيان.
كما أنَّ هذه المحاولات البائسة للتعرُّض لسلاح المقاومة التي باتت مكشوفة في أنها تقدِّمُ خدمةً مجَّانيّة للعدو الإسرائيلي، وتجرِّد لبنان من أهم نقاط قوّته في ظل الاستباحة الصهيونيّة المتمادية للسيادة اللبنانيّة، تمثّل طعنة في الظهر لأهالي الأسرى والشهداء، وخاصة المدنيون، منهم وليس آخرهم الطفل عباس عواله (بطل العالم في الحساب الذهني) الذي استهدفته مسيرة عند مدخل منزله في بلدة تولين، واستشهاد رجل وزوجته في بلدة قبريخا أمام أعين ابنتهما البالغة من العمر ١٠ سنوات يصاروخ مسيرة؛ وهما يسهران على شرفة منزلهما. ومع هذا لم يصدر أي بيان رسمي من حكومة "السيادة" يدين جرائم العدو بحق المدنيين العزّل أو التقّدم برفع شكوى لمجلس الأمن.
إذًا أيًا تكن الأمور، فإن هذا الشعب الذي تربى منذ عقود على عقيدة التضحية والدفاع عن أرضه وصون كرامته، لا ينتظر من هكذا حكومة منفصمة في مواقفها، أن تصنع له مجدًا أو تدافع عنه في وجه عدو منغطرس، لأن من تربى على العزّة يبقى عزيزًا ومن تربى على الذّل يبقى خسيسًا مأجورًا ينفذ أجندات أعداء وطنه، ويطعن السيادة في كل يوم في ظهرها.