اوراق مختارة

هل خرقت حكومة نواف سلام عقدها السياسي مع البرلمان؟

post-img

علي محمود الموسوي (الأخبار)

يشهد لبنان أزمة سياسية – دستورية جديدة، بعد أن أصدرت حكومة نواف سلام في 5 و7 آب 2025 قرارين يقضيان بحصرية السلاح بيد الدولة، دون أي استثناء أو إشارة إلى معادلة «الجيش، الشعب، المقاومة» التي شكّلت على مدى سنوات إحدى ركائز البيان الوزاري للحكومات المتعاقبة.

من البيان الوزاري إلى القرارات المثيرة للجدل

البيان الوزاري الذي عرضته حكومة سلام على مجلس النواب لنيل الثقة، تضمّن صيغة متوارثة منذ اتفاق الدوحة (2008)، تكرّس الاعتراف بحق لبنان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل، بما فيها المقاومة المسلّحة، وربط أي بحث في السلاح بعملية حوار وطني شامل ضمن استراتيجية دفاعية متوافق عليها.

هذا النص كان، بنظر القوى السياسية المشاركة أو الممثَّلة في البرلمان، تجسيداً لتوازن سياسي– ميثاقي دقيق، يضمن عدم المساس بعناصر القوة الوطنية إلا ضمن توافق جامع.

لكنّ القرارين الصادرين في آب قلبا هذه المعادلة. فقد نصّا على حصرية السلاح بيد المؤسسات الرسمية، وحدّدا مهلة زمنية للشروع في إجراءات لسحب أو دمج أي سلاح خارج هذه المؤسسات، بما يشمل السلاح المرتبط بفصائل المقاومة المعترف بها في البيان الوزاري نفسه.

التناقض الدستوري والقانوني

يرى المعارضون أن القرارات تمثّل تغييراً جوهرياً في السياسة الدفاعية التي أقرّها البيان الوزاري، ما يشكّل خرقًا للمادتين 64 و65 من الدستور: الأولى تُلزم الحكومة بالعمل وفق البيان الذي نالت على أساسه الثقة، والثانية تحصر تعديل السياسة العامة بآلية رسمية تعود فيها الحكومة إلى البرلمان.

المادة 68 من الدستور تمنح المجلس النيابي الحق في طرح الثقة بالحكومة إذا أخلّت بالتزاماتها أو خالفت البيان الوزاري. وبذلك، يصبح الطعن في شرعية القرارين ممكناً برلمانياً وقضائياً، سواء عبر طرح الثقة أو من خلال مراجعة أمام مجلس شورى الدولة.

الفقيه الدستوري إدمون رباط يؤكد أن البيان الوزاري ليس مجرد إعلان نوايا، بل هو «عقد سياسي» بين البرلمان والحكومة، وأي تعديل جوهري له خارج قاعة البرلمان يعني فقدان الحكومة لشرعيتها السياسية. أما أرند لايبهارت، فيحذّر في نظريته حول «الديمقراطيات التوافقية» من أن كسر التوازنات الميثاقية في أنظمة شبيهة بلبنان يهدّد الاستقرار ويفتح الباب أمام انقسامات عمودية.

أبعاد ميثاقية وسياسية حساسة

تنص مقدّمة الدستور اللبناني صراحة على أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». من هذا المنطلق، يرى المعترضون أن القرارات الأخيرة تمسّ مباشرة أحد أعمدة هذا الميثاق، إذ تلغي بنداً دفاعياً أُقرّ بتوافق وطني، ما قد يضاعف حدّة الانقسام بين المكوّنات اللبنانية.

على المستوى السياسي، يقرأ خصوم الحكومة القرارات بوصفها انسجاماً مع ضغوط أميركية–إسرائيلية، ترمي إلى نزع سلاح «حزب الله» خارج أي مسار داخلي توافقي. ويرون أن ذلك يحدّ من هامش المناورة الوطنية، ويعرّض السلم الأهلي للخطر. أما مؤيّدو القرارات، فيعتبرونها خطوة ضرورية لتعزيز سيادة الدولة وإعادة حصرية القوة المسلحة إلى المؤسسات الشرعية.

تحديات التطبيق ومخاطر الانقسام

حتى لو افترضنا دستورية القرارين، فإن تطبيقهما يواجه تحدّيات كبيرة: غياب التوافق السياسي، خطر انزلاق البلاد إلى مواجهة داخلية، وصعوبة تنفيذ الإجراءات على الأرض دون تهديد الأمن الداخلي. تاريخ لبنان الحديث حافل بالأمثلة على أن أي استخدام للقوة الرسمية ضد مكوّن داخلي يؤدّي إلى انقسامات حادّة وانزلاق نحو الفوضى.

البطلان القانوني المحتمل

1. مخالفة مبدأ التراتبية الدستورية
• البيان الوزاري بعد إقراره من البرلمان له قوة إلزامية سياسية ودستورية للحكومة.
• القرارات الوزارية أدنى مرتبة في التراتبية القانونية ولا يجوز أن تعدّل أو تلغي نصاً سياسياً–برنامجياً أقرّه البرلمان.

2. انعدام المشروعية السياسية

• في النظام التوافقي اللبناني، التوازنات السياسية التي يُبنى عليها البيان الوزاري تشكّل جزءاً من العقد السياسي بين القوى الممثّلة في الحكومة.
• كسر هذا التوازن بإلغاء بند المقاومة يُفقد الحكومة الغطاء التوافقي ويجعل قراراتها فاقدة للشرعية السياسية.

3. إمكانية الإبطال القضائي– الدستوري
• رغم أن المجلس الدستوري لا ينظر في أعمال الحكومة العادية، يمكن اعتبار القرارين إداريين ذَوَيْ طابع سياسي قابليْن للطعن أمام مجلس شورى الدولة إذا ترتّب عليهما ضرر مباشر.
• كما يمكن للمجلس النيابي أن يستخدم صلاحية طرح الثقة استناداً إلى مخالفة الالتزامات الواردة في البيان الوزاري.

نظرية الأعمال الحكومية

تفسّر نظرية الأعمال الحكومية (Governmental Acts Theory) جانباً أساسياً من موضوعنا، إذ إن جوهر الأزمة يدور حول ما إذا كانت حكومة نواف سلام قد تصرّفت ضمن الحدود التي يتيحها لها البيان الوزاري الذي نالت الثقة على أساسه، أم أنها تجاوزت هذا الإطار باتخاذ قرارات تمثّل تغييراً جوهرياً في السياسة الدفاعية للدولة.

وفق هذه النظرية، تُقسم أعمال الحكومة إلى:
1. أعمال سيادية أو سياسية بحتة (actes de gouvernement) التي تُعتبر من صميم السلطة التنفيذية ولا تخضع عادة لرقابة القضاء الإداري، كونها مرتبطة بالخيارات السياسية العليا وعلاقات الدولة داخلياً وخارجياً.

2. أعمال إدارية تنفيذية، وهي قابلة للرقابة القضائية، لأنها تترجم السياسات إلى إجراءات تنظيمية أو تنفيذية.

يمكن النظر إلى قرارَي 5 و7 آب 2025 على أنهما مزيج بين الفئتين:

• من جهة، هما يتناولان موضوع السلاح والسياسة الدفاعية، ما قد يُصنّف في خانة الأعمال الحكومية ذات الطابع السيادي.
• من جهة أخرى، هما يلغيان أو يعدّلان عملياً نصاً متفقاً عليه في البيان الوزاري أقرّه البرلمان، ما يجعلهما قرارات إدارية – سياسية قابلة للطعن إذا عُدّت تجاوزاً للصلاحيات أو إخلالاً بالعقد السياسي مع البرلمان.

تأثير نظرية الأعمال الحكومية هنا يتمثّل في نقطتين:

1. على المستوى الدستوري– السياسي:
تمنح النظرية الحكومة هامش حركة واسعاً في القضايا السيادية، لكنّ هذا الهامش ليس مطلقاً في نظام ديمقراطي توافقي مثل لبنان، حيث إنّ البيان الوزاري يُعدّ عقداً سياسياً ميثاقياً. إنّ أي قرار حكومي يغيّر توازن هذا العقد خارج آلية التعديل البرلماني قد يُعتبر انحرافاً عن مبدأ المشروعية السياسية، حتى لو كان القرار من طبيعة «سيادية».

2. على المستوى القضائي:
إذا اعتُبرت القرارات أعمالاً إدارية وليست «أعمال حكومة» بالمفهوم الضيق، يمكن لمجلس شورى الدولة النظر في الطعون وإبطالها، استناداً إلى مخالفة التراتبية الدستورية أو انعدام المشروعية. أما إذا صُنّفت كأعمال حكومة، فستبقى الحلبة الأساسية لمواجهتها هي البرلمان عبر طرح الثقة أو المسار السياسي–التوافقي، لا المسار القضائي.

وبالتالي، فإنّ نظرية الأعمال الحكومية تحدّد الإطار الذي يُحسم فيه الخلاف: هل هو نزاع سياسي يُحلّ في البرلمان أو عبر الحوار الوطني، أم هو نزاع قانوني إداري يمكن أن يُحسم أمام القضاء؟

السيناريوات المقبلة

أمام هذه التطورات، تقف البلاد على أعتاب ثلاثة مسارات محتملة:
1. مسار برلماني: قد يتجه المعارضون إلى طرح الثقة بالحكومة، مستندين إلى المواد الدستورية التي تلزمها بالالتزام ببيانها الوزاري.
2. مسار قضائي: تقديم مراجعات أمام مجلس شورى الدولة لإبطال القرارين، بحجة مخالفتهما لمبدأ المشروعية وانحراف السلطة عن المصلحة العامة.
3. مسار سياسي– توافقي: العودة إلى طاولة الحوار الوطني لإعادة صياغة مقاربة مشتركة لمسألة السلاح، بما يحفظ التوازن الميثاقي ويجنّب البلاد أزمة مفتوحة.

خاتمة

الأزمة الحالية ليست مجرد خلاف حول بند أمني، بل اختبار عميق لقدرة النظام السياسي اللبناني على احترام التزاماته الدستورية والحفاظ على توازناته الميثاقية. فإمّا أن يتم تصحيح المسار عبر المؤسسات، أو أن ينفتح الباب أمام أزمة سياسية ودستورية جديدة قد يكون من الصعب احتواؤها في ظل الانقسام الداخلي والضغوط الخارجية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد