اوراق مختارة

مفهوم جرم إساءة الامانة وإدانة المصرف

post-img

ناضر كسبار (جريدة الديار)

في حكم صادر عن القاضي المنفرد الجزائي في بيروت الرئيسة فاطمة الجوني، بجرم إساءة الامانة وجرمي المس بهيبة الدولة الحالية ومخالفة الانظمة وتعاميم مصرف لبنان، اعتبرت الرئيسة الجوني ان عقد فتح الحساب المصرفي يعد عقد وديعة استهلاكية، لان العميل يودع امواله لدى المصرف الذي يحق له استعمال تلك الاموال من خلال استثمارها في عملياته التجارية، دون ان يتعين عليه حفظها بعينها، وان كان ملزما طبعا بإعادة مثلها الى العميل عند الطلب ضمن الشروط والضوابط الواردة في ذلك العقد، ويكون الامر خلاف ذلك اذا تبين ان تسليم المال الى المصرف قد تم منذ البدء بنية حفظه بالذات لإعادته الى المودع عند الطلب، فعندئذ تتسم العلاقة بالوديعة العادية، وهو امر غير ثابت حصوله في الملف.

كما اعتبرت الرئيسة الجوني انه من الثابت بأقوال المدعى عليه وبالمستندات المبرزة منه، وغير المنازع بها من المدعية، ان عملية التحويل المجراة قد شابها خطأ في ما يتعلق بالبلد المحول اليه المال، ما ادى الى رفض تنفيذها في المانيا وإعادة المبلغ المحول الى المدعى عليه، وان المدعية قد وقعت بتاريخ 31/10/2019 على طلب تحويل جديد لاستدراك الخطأ المذكور، إلا ان المدعى عليه لم يعد تحويل المال متذرعا بما حصل بعد 17/10/2019 وبقرارات جمعية المصارف والمصرف المركزي الملزمة له.

واعتبرت ان امتناع المصرف المدعى عليه عن إجابة المدعية بتحويل اموالها الى الخارج غير مسند الى ما يمكن ان يبرره، فيكون جرم إساءة الامانة المنصوص عليه في المادة 670 لا المادة 671 من قانون العقوبات قد اكتمل في وضعه بمجرد امتناعه، ولا ينال منه اي تعاميم مكتوبة صادرة بعد اكتماله، ولا يجدي المدعى عليه نفعا نفي التبعة عنه بذريعة قيوده المحاسبية التي اورد فيها المبلغ المدعى اساءة الامانة به رصيدا دائنا لمصلحة المدعية، لان تلك القيود تبقى حبرا على ورق، وما دامت إساءة الامانة قد توافرت بمجرد تخلف المدعى عليه عن تنفيذ التحويل المطلوب بدون عذر مقبول.

وقضت بإدانة المصرف المدعى عليه.

ومما جاء في الحكم الصادر بتاريخ 12/8/2025:

في القانون:

حيث ان الادعاء مسند الى احكام المادتين 670 و671 من قانون العقوبات،

وحيث ان القاضي هو وحده معطي الافعال وصفها دون ان يقيده الادعاء العام او الخصوم في ذلك

وحيث ان جرم إساءة الامانة في وجهه المنصوص عليه في المادة 670 من قانون العقوبات لا يتحقق عنصره المادي إلا بوجود كتم او اختلاس او تبديد او إتلاف لمال منقول قيمي او مثلي تم تسليمه وفق احد العقود المنصوص عليها في المادة المذكورة اي ما اصطلح على تسميته بعقود الامانة، اي عندما يكون التسليم قد تم على وجه الوديعة او الوكالة او الاجارة او عارية الاستعمال او الرهن او لإجراء عمل معين،

وحيث ان جرم إساءة الامانة في وجهه المنصوص عليه في المادة 671 من قانون العقوبات يتحقق بكل من يتصرف بمبلغ من المال او بأشياء اخرى من المثليات المسلمة اليه لعمل معين، وهو يعلم او كان يجب ان يعلم انه لا يمكنه إعادة مثلها، ولم يبرئ ذمته رغم الانذار،

وحيث من الثابت ان إيداع المدعية لمالها لدى المصرف المدعى عليه كان إنفاذاً لعقد فتح حساب مصرفي، اي ان المبلغ المتنازع عليه كان اساسا موجودا لدى المدعى عليه ومقيدا في حسابها، والذي يعود لها تحريكه بموجب العمليات المصرفية المتفق عليها والمتعارف عليها على حد سواء، وان المدعية لم تسلمه إياه مشترطة عليه تحديدا عند التسليم تحويله الى الخارج، وبالتالي فإن المصرف المدعى عليه لم يستلم ذلك المال من المدعية لاجل تحويله الى الخارج، بل انه استلمه وفتح به حسابا بأسم المدعية إنفاذا لما هو متفق عليه،

وحيث ان عقد فتح الحساب المصرفي يعد عقد وديعة استهلاكية، لان العميل يودع امواله لدى المصرف الذي يحق له استعمال تلك الاموال من خلال استثمارها في عملياته التجارية، دون ان يتعين عليه حفظها بعينها، وان كان ملزما طبعا بإعادة مثلها الى العميل عند الطلب ضمن الشروط والضوابط الواردة في ذلك العقد، ويكون الامر خلاف ذلك اذا تبين ان تسليم المال الى المصرف قد تم منذ البدء بنية حفظه بالذات لإعادته الى المودع عند الطلب، فعندئذ تتسم العلاقة بالوديعة العادية، وهو امر غير ثابت حصوله في الملف،

وحيث ان هذا التوصيف لعقد فتح الحساب يفتح المجال امام تطبيق احكام المادتين 670 و671 من قانون العقوبات على العلاقة بين المصرف والعميل، ولا ينال من ذلك ما ذهب اليه بعض الفقه والاجتهاد لناحية التمييز بين الوديعة العادية والوديعة الاستهلاكية، اذ لا مجال للتخصيص وللتضييق من نطاق النص الذي ذكر الوديعة بشكل عام دون حصرها بأحد نوعيها، هذا وانه، وبمعزل عن ذلك، فإن المصرف يبقى بالامكان اعتباره مسيئا للامانة في حال امتناعه عن إعادة الاموال لعميله بالرغم من إنذاره، وذلك تفعيلا لاحكام المادة 671 من قانون العقوبات،

وحيث من الثابت بأقوال الفريقين وبالمستندات المبرزة ان المدعى عليه قد اجرى في البداية عملية التحويل المطلوبة واثبتها في قيوده وكشف الحساب المبرز من المدعية،

وحيث من الثابت بأقوال المدعى عليه وبالمستندات المبرزة منه، وغير المنازع بها من المدعية، ان عملية التحويل المجراة قد شابها خطأ في ما يتعلق بالبلد المحول اليه المال، ما ادى الى رفض تنفيذها في المانيا وإعادة المبلغ المحول الى المدعى عليه، وان المدعية قد وقعت بتاريخ 31/10/2019 على طلب تحويل جديد لاستدراك الخطأ المذكور، إلا ان المدعى عليه لم يعد تحويل المال متذرعا بما حصل بعد 17/10/2019 وبقرارات جمعية المصارف والمصرف المركزي الملزمة له.

وحيث غني عن البيان انه يتعين على المحكمة ان تلج الحل بأيسر السبل، وألا تناقش وتستثبت إلا ما هو منتج في النزاع،

وحيث ولو سلم جدلا، بأنه لا يمكن اعتبار المصرف مسيئا للامانة بمجرد امتناعه عن تنفيذ طلبات العميل بإعادة الاموال او بتحويلها الى الخارج، وبأن وجود مبرر مشروع لرفض طلبات العميل يعدم جرم إساءة الامانة، وبأنه لا يمكن القول بتوافر ذلك الجرم عندما يكون الامتناع مسندا الى قيود تنظيمه فرضها المصرف المركزي لمواجهة ازمة اقتصادية معينة ولتفادي اي شح في العملات الاجنبية،

وحيث ولو صحت اقوال المدعى عليه بخصوص الزامية القرارات والتعاميم الصادرة عن المصرف المركزي، وعدم إمكانية تجاوزها من قبل اي مصرف تحت طائلة المساءلة الجزائية والتأديبية، وذلك إنفاذا لاحكام قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي، والتي اناطت بالمصرف المركزي صلاحية تنظيم القطاع المصرفي وإصدار التعليمات والتنظيمات التي تهدف الى تعزيز استقرار الاقتصاد اللبناني والنقد الوطني وحماية اموال المودعين،

وحيث ولو انه من المعلوم للكافة ان المصرف المركزي قد فرض قيودا بصورة غير رسمية على التحويلات بالعملة الاجنبية الى الخارج فور اندلاع ثورة تشرين الاول من عام 2019  بموجب ما عرف اصطلاحا بالتعاميم الشفهية، وان المصارف عموما فرضت قيودا على السحوبات والتحويلات الخارجية بالعملة الاجنبية، وباتت تبرر ذلك بكونها مقيدة بالالتزام بتوجيهات مصرف لبنان،

ولكن، يبقى انه من اللازم على المحكمة التثبت من مدى توفر المبرر المشروع في امتناع المدعى عليه عن إعادة تحويل مال المدعية الى سويسرا بعد ورود طلبها التصحيحي المؤرخ في 31/10/2019، والذي اتى في فترة كانت فيها تعاميم المركزي مجرد توجيهات شفهية غير رسمية، ولم يكن فيها المشرع قد تدخل بأية نصوص قانونية قادرة على مواكبة واقع مصرفي استثنائي بلغ فيه الخرق حدود المساس الصريح بمبادئ الثقة والامان التي يقوم عليها النظام الاقتصادي برمته، بما من شأنه ان يضع حدا لمظالم موصوفة تهز الضمير القضائي وتمس حقوق المودعين في اموالهم وامنهم الاقتصادي.

وحيث غني عن البيان انه يدخل في صلب مهام المصرف المركزي بسبب سلطته الرقابية والتنظيمية اتخاذ التدابير اللازمة وإصدار التوجيهات والتعاميم للمصارف بغرض ضمان استقرار قيمة النقد الوطني والحؤول دون تفريغ الخزينة من العملات الاجنبية، ولك ذلك تفعيلا لاحكام قانون النقد والتسليف لاسيما المادتين 70 و 174 منه، ولكن هذه التوجيهات وتلك التعاميم يتعين ان تكون قد صدرت مكتوبة وان تنشر في الجريدة الرسمية، وان تأتي متوافقة غير متعارضة مع القواعد القانونية الاعلى منها مرتبة، لاسيما عندما يتعلق الامر بفرض قيود على الاموال او على حرية التصرف بالحسابات العائدة للافراد، فالملكية الفردية في حمى الدستور، بحيث لا يمكن قانونا بأي حال من الاحوال المساس بتلك الملكية او حرمان المالك من حقوقه الاساسية على ماله إلا عبر نصوص واضحة ومكتوبة ومعلنة ومنشورة في الجريدة الرسمية وتحترم مبدأ تسلسل القواعد القانونية، ان لم نقل عبر قانون صادر على السلطة التشريعية يضمن توحيد المعاملة بين المودعين وتحقيق الانصاف بينهم في استعادة اموالهم، ومن هنا فإن التعليمات والتوجيهات الشفهية تبقى مفتقرة الى ما يجعلها ملزمة وسارية على المودعين وتبقى عاجزة عن توفير المبرر القانونية او الغطاء الشرعي لاي انتهاك لحقوق المودعين،

وحيث لا يمكن تأسيسا على ما تقدم قبول دفاع المدعى عليه بالقول انه كان يلتزم بتعاميم مصرف لبنان او بتوجيهاته، وطالما ان تلك التعاميم كانت، عند امتناعه عن إجابة طلب المدعية بتحويل مالها الى الخارج، مجرد تعاميم شفهية لا تتمتع بأية قوة إلزامية وبالتالي فإن الامتثال لها لا يعفيه من مسؤوليته المباشرة امام عملائه، ومن نافل القول ان تذرعه بأي قرارات صادرة عن جمعية المصارف في هذا المجال لا يستقيم اطلاقا ولا يوفر له المبرر المشروع، ذلك انه لا يوجد في القانون اي نص يمنح تلك الجمعية الصلاحيات اللازمة للمساس بحقوق المودعين،

وحيث يكون امتناع المصرف المدعى عليه عن إجابة المدعية بتحويل اموالها الى الخارج غير مسند الى ما يمكن ان يبرره، فيكون جرم إساءة الامانة المنصوص عليه في المادة 670 لا المادة 671 من قانون العقوبات قد اكتمل في وضعه بمجرد امتناعه، ولا ينال منه اية تعاميم مكتوبة صادرة بعد اكتماله، ولا يجدي المدعى عليه نفعا نفي التبعة عنه بذريعة قيوده المحاسبية التي اورد فيها المبلغ المدعى اساءة الامانة به رصيدا دائنا لصالح المدعية، لان تلك القيود تبقى حبرا على ورق، وطالما ان إساءة الامانة قد توافرت بمجرد تخلف المدعى عليه عن تنفيذ التحويل المطلوب بدون عذر مقبول، علما بأن طلب التحويل هو من العمليات التي كان يقوم بها المدعى عليه سابقا لصالح المدعية، وطالما انه يعتبر اصلا من العمليات المصرفية العادية التي يتعين عليه القيام بها ولو لم ترد بشكل صريح في عقد فتح الحساب، وما دام لم يثبت اتفاق الفريقين على خلاف ذلك، كما لا يجدي المدعى عليه نفعا التذرع بالشيكات المصرفية التي طلب ايداعها صندوق محكمة التجارة في بيروت بعد إقفاله حساب المدعية لان جرم إساءة الامانة قد اكتمل في وضعه قبل قيامه بإقفال الحساب وبعرض تلك الشيكات من جهة، ولانه من المعلوم ان تلك الشيكات قد فقدت قيمتها المبرئة لذمة المودع من كامل المستحق بذمته بعد ثورة تشرين الاول بسبب عدم قدرة الدائن على تحصيل قيمتها الكاملة من جهة ثانية،

وحيث يتعين إلزام المدعى عليه بإعادة المبلغ المساءة الامانة به الى المدعية، والبالغ مليون يورو نقدا، بالاضافة الى مبلغ خمسة مليارات ليرة لبنانية كبدل عطلها وضررها،

وحيث ان وقائع الدعوى ومعطياتها لم تختزن اي عنصر من عناصر المادتين 319 و770 من قانون العقوبات، اذ لم يتبين منها قيام المدعى عليه بإذاعة وقائع ملفقة او مزاعم كاذبة لإحداث التدني في اوراق النقد الوطنية او لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الاسناد ذات العلاقة بالثقة المالية، وان كانت المحكمة لا تنفي اطلاقا دور المصارف اللبنانية عموما، بما فيها المصرف المدعى عليه، في الانهيار الحاصل في الاقتصاد والنقد اللبنانيين، كما لم يتبين قيام المدعى عليه بمخالفة اية انظمة بلدية او ادارية، فتبطل التعقبات عنه بجرم المادتين 319 و770 لانتفاء عناصرها،

وحيث ان التوصل الى هذه النتيجة يجعل بحث سائر النقاط المطروحة نافلا،

لذلك

وسندا الى المادة 196 من قانون اصول المحاكمات الجزائية، يحكم:

اولا: بإدانة بنك ب. بجرم المادة 670 معطوفة على المادة 210 من قانون العقوبات اللبناني، وبتغريمه مئتين واثنين وستين الف يورو (ربع قيمة الردود والعطل والضرر) وبإبطال التعقبات المسوقة في حقه بجرمي المادتين 319 و770 من قانون العقوبات.

ثانيا: بإلزام المدعى عليه بأن يدفع الى المدعية ن. مبلغ مليون يورو نقدا، او ما يعادله بالنقد الوطني وفقا للسعرالرائج في السوق لليورو بتاريخ الدفع الفعلي، وهو يمثل بدل المبلغ المساءة الامانة به، بالاضافة الى خمسة مليارات ليرة لبنانية كبدل عطلها وضررها.

ثالثا: بتضمين المدعى عليه النفقات كافة.

حكما بمنزلة الوجاهي في حق الفريقين، يقبل الاستئناف، صدر وافهم علنا في بيروت في تاريخ 12/8/2025.

نقيب المحامين السابق في بيروت

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد