عبد الغني طليس/ جريدة الأخبار
عزيزتي رئيسة مجلس إدارة تلفزيون لبنان الدكتورة أليسار الندّاف الموقّرة..
تحية وبعد،
لم أكن في حاجة إلى سَماع اعتراضات "رسمية" -عن طريق الحمَام الزاجل الصادق النَّقْل!- على بعض مقالاتي السياسية في الصحف ووسائل التواصل، مبنيةٍ على استهجانِ أنني لا أزال أُعِد وأُقدّم برنامجًا ثقافيًا في التلفزيون الرسمي. خيرًا إن شاء الله؟..فأنا أكتب في السياسة عبر كبريات الصحف السياسية منذ أربعين عامًا، بينها السبعة عشَر عامًا الأخيرة التي هي عُمر برنامجي التلفزيوني "مسَا النور"، ولم أسمع لا تلميحًا ولا تصريحًا بانزعاجِ مسؤولٍ عن محتوى مقالاتي، ورَبْطِ ذلك بما يعتقدونه مانعًا: برنامج ثقافي من محطة الدولة. لكنْ يبدو أن المرحلة الراهنة "مختَلِفة"!
كأن الارتباط بهذا البرنامج من محطة الدولة يمنعني من أن أكون حرًّا في آرائي السياسية التي تتناول قراراتها- وأنا لستُ موظفًا رسميًا في تلفزيون لبنان، بل "متعامل"- ما أبشع هذه الكلمة!- تحديدًا تلك القرارات التي أراها في غير مكانها، مثل تسمية جادة حافظ الأسد باسم زياد الرحباني، مثلًا، وبيّنتُ في مقالتي أسبابًا، فنيّة وثقافية موجبة للتراجع عن القرار .. مع الإشارة القاطعة بأن تلك الآراء "الخاصة" بي لا أدخِلُها إلى أي حلقة من حلقات برنامجي الثقافي أبدًا، كما لا أتطرّق إلى السياسة الراهنة، حتى في بعض الحلقات "السياسية الطابع" التي تتناول مؤلّفي كتُب سياسية ومؤلفاتهم ما يستدعي بعض الخوض في مضمون تلك الكتب. لكنني أعلم "العنعنات اللبنانية" التي تخلط "شعبان برمضان" و"تفرض" الابتعاد في البرنامج عن السياسة، كونه يُشَخَّص بالبُعد الثقافي، فيُلزمني به. كأن الحدود بين السياسة والثقافة مُرَسَّمة بالسنتيمتر !
كما لم أكن في حاجة إلى نقطة ماء تفيض بالكوب عن طاقته، حتى أقرر ما يلي :
أولًا: استقالتي من إعداد وتقديم برنامجي"مسَا النور"، بعد سبعة عشر عامًا من الحضور في الحياة الثقافية التلفزيونية اللبنانية.
ثانيًا: إن عملي على البرنامج، بتجديد مضمونه وحتى أسلوبه كل فترة، كان بهدف إسباغ روحية تطوير عليه. ولم أكن ألحظُ تقديرًا ممّن يُفترَض "في المحطة" أن يعلموا ويقدّروا ماذا فعلتُ ليبقى البرنامج نضِرًا ومُشاهَدًا أقلّه بين جمهور نخبوي والصحافيين والشعراء والأدباء والمفكّرين والفنانين، رغم أمكاناتٍ فقيرة وأقول معدومة حولي، فكانوا من وقت إلى آخَر يحاولون "تَقْنِيصَهُ" بطريقةٍ ما، وكنتُ أتجاهل ، على مستويَين: معنوي ومادي، وأقول "لا بأس، ولن أيأس". هكذا أكملتُ، وثابرتُ. حتى استسلمت!
والمؤسف أنه لا على المستوى المعنوي كان يستجدّ شيء يُمَتّنُ علاقتي بالبرنامج إلا شغَفي، ولا على المستوى المادي كان يَنظُر أحد بعين المسؤول ليصحح الخلل المادي الفظيع الذي كان يلحق بي.
وإذ علمتُ منكِ، دكتورة أليسار أنك "تحبين" البرنامج وترغبين في تغيير ديكوره ليصبح أكثر عصرية، فإنّ قراري بتَرْكه، لا يتناولك بسُوءٍ مطلقًا، بل يتناول ضيق الصدور السياسية، ومِن "الأعلى"، بشكل عام في بلد يقال فيه كثيرًا عن دور الحرية والرأي والرأي الآخَر"عالفاضي"!
ومن بعْدِ ضيق الصدور، ضيقُ ما استقرّ عليه البدَل المادي عن إعدادي وتقديمي البرنامج. ففي السنوات الأخيرة صُحّحَت أرقامُ معاشات موظفي تلفزيون الدولة، وحُجِب عني التصحيحُ كأنني لستُ كغيري، مع أنني "داعبتُ" وزير الإعلام بول مرقص بالموضوع بقصيدة لطيفة. ومعالي الوزير بذاته قال لي إنه هزّ رأسه استنكارًا حين اطّلع على معاشات العاملين في التلفزيون، ورأى رقم معاشي المزري - من دون أي تقديمات اجتماعية!- والذي لا أكشفه تدارُكًا لنظرة شفقة إلى التلفزيون ممن سيقرأون كتابي هذا. والواقع الشخصي أنه كان وما زال لديّ البديل المادي، فأنا مرتبط منذ سنوات بإعداد كتابة أسئلة حلقات تلفزيونية لمحطتين عربيتين تؤمّنان لي شهريًا دخلًا مريحًا وكريمًا، يعصِمني من مطالبة تلفزيوني اللبناني بشيء لا يستطيعه.
ثالثًا: أعتقد إن السبعة عشر عامًا الماضية كافية، لأترك المجال لغيري. وربما أمنح الفرصة لمن ينزعج من كتابتي السياسية، بأن يتحرّر مني، بإرادتي، في تلفزيون، لم أعرف له يومًا هوية سياسية بقدر ما لاحظتُ فيه هوية" مين ما أخد إمي بيصير عمّي". ولكم مني كل تقدير.
(الأربعاء ٢٠ / ٨ / ٢٠٢٥ )