اوراق مختارة

إرنست رينان.. اللغة اختراع بشري

post-img

يناقش كتاب "حول أصل اللغة" للفيلسوف وعالم الآثار الفرنسي إرنست رينان (1823- 1892) سؤالًا قديمًا ظل يشغل الفلاسفة واللاهوتيين عن كيفية نشأة اللغة: هل هي هبة إلهية، أم ثمرة تطور طبيعي لعقله وحياته الاجتماعية؟ وما خصائص اللغة الأولية في العصور الغابرة، وعلاقة اللغات بالأجناس البشرية المختلفة؟

صدرت النسخة العربية من الكتاب عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، بترجمة سحر سمير يوسف، في إحياء لهذا العمل المبكر الذي نشره رينان في العام 1848، حين كان شابًا لم يتجاوز الخامسة والعشرين، حين بدأ آنذاك يكرّس نفسه لفقه اللغة ودراسة النصوص القديمة واللغات الشرقية.

يرفض رينان التفسيرات اللاهوتية والفرضيات البسيطة، فهو يرى في اللغة نتاجًا طبيعيًا للفطرة الإنسانية، قائمًا على قدرة العقل على تحويل الأصوات إلى رموز ودلالات، وبرأيه أنَّ تنوع اللغات لا يتعارض ووحدة الأصل البشري، بل يكشف مرونة العقل في ابتكار أشكال متعدّدة للتعبير.

يلمّح الفيلسوف إلى خصوصية اللغات السامية مقارنة باللغات الهندوأوروبية، وهو ما سيقوده لاحقًا إلى كتابه الكبير عن التاريخ العام والأنظمة المقارنة للغات السامية الذي نشره في العام 1855. لكن قيمة كتابه المترجم لا تقتصر على الجانب اللغوي، إذ يتقاطع مع الفلسفة والتاريخ، فاللغة عند رينان ليست مجرد أداة للتخاطب،  هي خزان للذاكرة الجماعية، وعنصر أساسي في تكوين الوعي الإنساني. ومن هنا، فإن دراسة اللغة تعني أيضًا دراسة الحضارات التي نطقت بها.

هل اللغة مجرد وعاء محايد للفكر، أم أنها تشكّل الفكر نفسه؟

عند صدوره، أثار الكتاب نقاشًا واسعًا؛ لأنه تجرّأ على مقاربة مسألة اللغة بعيدًا عن سلطة الكنيسة. وعلى الرغم من هدوء نبرته، فقد انطوى على ملامح الصدام الذي سيتجلى لاحقًا في أعمال رينان الأشهر مثل كتابه "حياة يسوع" (1863). مع ذلك، يبقى هذا النص أقرب إلى محاولة تأسيسية تهدف إلى وضع أسس علم مقارن للغات، أكثر منه هجومًا مباشرًا على العقائد.

يتيح صدور الترجمة العربية للقارئ العربي الدخول إلى أجواء القرن التاسع عشر الفكرية، حين تداخل البحث اللغوي مع الأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان المقارن، من خلال عمل صغير الحجم؛ لكنه ترك تأثيره كونه يكشف البذور الأولى لمشروع رينان الفكري الذي جمع بين الفيلولوجيا والتاريخ والفلسفة.

يُذكّر رينان بأن اللغة، على بداهتها الظاهرة، أعقْد من أن تُختزل في تفسير وحيد، وأنّها المرآة التي تعكس وعي الإنسان بذاته وبالعالم. كما يفتح الكتاب بابًا للنقاش عن أسئلة ما تزال راهنة عن اللغة وتشكّلها، وهل هي مجرد وعاء محايد للفكر، أم أنها تشكّل الفكر نفسه؟ وهل يمكن فهم المجتمعات حقًا من دون فهم لغاتها؟ أسئلة طرحها رينان منذ أكثر من 170 عامًا، لكنها ما تزال حتى الآن في قلب التفكير الثقافي العربي والعالمي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد