فادي الحاج حسن / كاتب لبناني
تعيش غزة، اليوم، مأساة إنسانية تستصرخ بالصوت الأعلى وجدان كل إنسان يحمل شعور الحق والعدل، وتقف أمامها الحقائق المؤلمة التي تجسد بُعدًا خطيرًا لجهة انتهاك القيم الإنسانية والمبادئ القانونية الدولية. هذه الأرض الصغيرة، والتي تبلغ مساحتها زهاء 365 كيلومترًا مربعًا، تحمل بين ترابها واحدة من أقدم وأعقد قصص الصراع في التاريخ المعاصر، معركة مستمرة بين شعب يحاول فقط أن يعيش بكرامة وبين عدو صهيوني عاث في الأرض فسادًا.
إن المُجازر اليومية التي ترتكبها قوات العدو الإسرائيلي في غزة لا تمثل مجرد اعتداءات عسكرية عابرة، هي جزء من استراتيجية ممنهجة تنتهك جميع قواعد القانون الدولي الإنساني، خاصة مبادئ الحماية المدنية في النزاعات المسلحة، والتي تمنع استهداف المدنيين والممتلكات العامة والخاصة. القتل المتعمد للمدنيين والدمار الشامل للبنية التحتية وقطع السبل الإنسانية مثل المياه والكهرباء والرعاية الطبية والتجويع المتعمد، تُعد جرائم حرب بمقتضى اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، كما تؤكد قرارات محكمة الجنايات الدولية التي أُنشئت للحفاظ على العدالة الدولية.
المقاومة في غزة ليست نزاعًا عاديًا بين دولتين أو فصيلين متنازعين، هي فعل إنساني نابض بالكرامة والحق في مواجهة احتلال يغتصب الأرض، ويعتدي على المدنيين بدم بارد. إن المقاومة مشروع سياسي وأخلاقي ينبع من حق الدفاع عن النفس وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة، وليس مجرد رد فعل. تجسد غزة بأسوارها المهدمة وبيوتها المهددة بالانهيار صورة الصمود الذي يرفض الانكسار، ويؤمن أن العدالة ليست شعارًا بل واقع يصنعه التمسك بالحق والمثابرة عليه.
مع الأسف الشديد، هذا الحق البديهي الذي هو حق الشعوب المُحتلة في مقاومة الاحتلال بالوسائل المشروعة كافة، يقابل بتواطؤ دولي وصمت عالمي مريب. الدعم الأمريكي للعدو الإسرائيلي يتجاوز الدعم المادي والعسكري، هو أيضًا دعم سياسي وعميق يجعل الولايات المتحدة شريكًا في تقويض قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان. هذا الدعم يظهر جليًا في استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحجب أي قرار يدين أو يوقف العدوان الإسرائيلي، ما يكرس الإفلات من العقاب، ويغذي منطق القوة وسيلة وحيدة للتسلط.
إن سكوت العالم عن مجازر غزة يُعدّ خيانة للقيم الإنسانية الجامعية التي تبنتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. هذا الصمت المطبق يجعل من القانون الدولي مجرد ورقة تُستعمل بحسب مصالح القوى الكبرى، في حين يُترك شعب بأكمله يعيش في جحيم من الحصار والتدمير الكامل. نجد أنفسنا أمام مأزق أخلاقي وقانوني خطير؛ إذ تخرق المبادئ الأساسية للاعتراف بحق الشعوب في تقرير المصير، ويتعامل مع شعب غزة على أنه عدو وليس ضحية.
العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة يشكل نموذجًا صارخًا للتمييز العنصري المنهجي وسياسة التطهير العرقي، ما يُعرف بالـ"أبارتهايد" وفقا لتصنيفات الأمم المتحدة وحركات الحقوق المدنية. هدم المنازل، قصف المدارس والمستشفيات وحصار غزة البري والبحري والجوي، وقتل الاطفال والنساء والشيوخ، كلها تكتيكات تهدف إلى تحطيم البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تسمح بحد أدنى من الحياة الإنسانية، الأمر الذي يعرض السكان لأزمات إنسانية حادة على المستويات الصحية والعملية والتعليمية.
على الصعيد الجيوسياسي، حلم ما يسمى "إسرائيل الكبرى" ليس مجرد طموح توسعي، هو مشروع استعماري جديد غاصب يسعى إلى تفتيت الروابط الوطنية والقومية في المنطقة، عبر إحكام السيطرة على موارد الأرض والمياه، وتهجير السكان الأصليين، وسلخهم عن هويتهم التاريخية، مستندًا إلى روايات تاريخية مزيفة ودينية عنصرية. هذا المشروع يواجه مقاومة شعبية شرسة، وتظل غزة مثالًا حيًا على مقاومة الاحتلال والصمود في وجه الظروف القاسية، والتي بفضلها استطاعت أن تحافظ على روحها الوطنية والسياسية على الرغم من محاولات القتل والتدمير كلها.
هناك درس إنساني عميق يكمن في صمود غزة وأهلها، وهو أن القيم الإنسانية لا تتحقق فقط في النصوص القانونية أو الخطابات السياسية، هي تتجسد في فعل صادق ومستمر يؤكد الحق في الحياة والكرامة. أمام هذا الواقع المرير، لا بد من إعادة بناء وعي عالمي جديد يدرك أن سلام المنطقة لن يأتي إلا بتحقيق العدالة والحرية لشعب فلسطين من غزة إلى كل فلسطين، وأن دعم الاحتلال والاستعمار ليس طريق سلام؛ بل طريق للاستعمار الدائم والاستبداد.
إن مواجهة الظلم في غزة ليست قضية محلية أو إقليمية فحسب، بل هي اختبار حقيقي للضمير الإنساني العالمي. إن كل قتل لمدني في غزة هو جريمة ضد الإنسانية، وكل صمت هو مشاركة في الجريمة. لذلك يجب أن يتحول الوعي إلى عمل فاعل؛ من خلال الضغط الدولي والتحرك الحقوقي والقانوني وإعلاء صوت الحقيقة، ونبذ كل أشكال الكراهية والعنصرية. الحل العادل لا يمكن أن ينشأ إلا على أساس احترام حقوق الإنسان، ووقف الاحتلال، ورفع الحصار، وتوفير الحماية القانونية والسياسية للشعب الفلسطيني.
في النهاية، غزة ليست مجرد مدينة مدمرة، هي رمز للكفاح الإنساني في وجه الظلم والاحتلال. تجربتها المريرة تذكرنا بأن التاريخ لا يُكتب بالدم فقط، بل بالحق الذي يعلو على كل قوة واحتلال. وهي حياة ترنو إلى الحرية، ورُوح صامدة تُنذر بسقوط الاحتلال واندحار كل أشكال الاستعمار، فالمقاومة هنا ليست فقط فعلًا سياسيًا، هي واجب الأخلاق والضمير ورسالة حب وإنسانية لكل من يؤمن بأن السلام الحقيقي لا يولد إلا من رحمة وضد قهر الإنسان.
هكذا تبقى غزة، بين الدمار والانتصار، منارة للمقاومة التي تمثل أمل الشعوب في أن يستعيد الحق مكانته، وأن يشرق فجر العدالة فوق رماد الدماء.