اوراق خاصة

كيف يمكن للحكومة استعادة السيادة الوطنية؟

post-img

حسين كوراني

تعتبر السيادة الوطنية جوهر نشوء الدولة واستمراريتها، ومن دون سيادة فعلية، تفقد السلطة الحاكمة ثقتها أمام مواطنيها وهيبتها أمام الخارج. وكما أنه لا وجود لكيان سياسي من دون سلطة ولا السلطة من دون قرارات، لا شرعية أو قيمة لأي قرار سياسي نابع من خارج الحسابات الوطنية ولا يراعي مصلحة الوطن العليا.

وهذا بالفعل ما يعانيه لبنان هذه الأيام مع حكومة الرئيس نواف سلام، حكومة تشّكلت بضغوطات وإملاءات دولية أميركية وسعودية مستفيدة من العدوان "الإسرائيلي" البربري الأخير على لبنان، بعيدًا عن مراعاة التوازنات النيابية، وممثلة لأحزاب ومكوّنات سياسية على حساب غيرها، وبالتالي لم تعد تمثل إرادة الشعب، الممثل الحقيقي لجميع السلطات.

هذا من ناحية، أما من الناحية الأخطر والأهم، ورغم أن حكومة سلام "العتيدة" جاءت بتركيبة لا تعبّر عن تطلعات مواطنيها، إلا أنها تعمل على تنفيذ أجندات خارجية، بعيدًا عن مصلحة الوطن وأسس العيش المشترك فيه، وهذا بدوره، ما يؤدي إلى إصابة جوهر السيادة الوطنية التي هي ملك الشعب في صميمها.

وأمام هذا الواقع، أصبح الوضع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه اللبنانيون خلال هذه المرحلة خطيرًا جدًا، فبدلًا من أن تعمل الحكومة على تقديم المصالح الوطنية العليا على أية مصلحة أخرى، تعمل على تغذية الانقسام السياسي داخل الوطن من خلال تنفيذها مخطّطات خارجية مشبوهة تمس روح السيادة، تارة بالسكوت عن اعتداءات العدوّ "الإسرائيلي" اليومية على لبنان، وتارة بالمطالبة بسحب سلاح المقاومة التي دافعت عن شرف وكرامة شعبها طيلة أربعة عقود.

وهكذا أصبحت السيادة اللبنانية مستباحة من الداخل، من حكومة مسلوبة الإرادة، معظم وزرائها من "أتباع الوصاية" الأميركية ـ السعودية، تنفذ أوامر الخارج، ومستباحة أيضًا من "إسرائيل" التي تحتلّ جزءًا من أرض الوطن وتدمر القرى وتقتل وتهجّر المواطنين كلّ يوم. وأمام هذه المعضلة، يجب على الحكومة أن تتحمل تبعات سياستها ومواقفها، وتعمل على مناقشة مسألة استعادة الدولة لسيادتها على قراراتها وعلى أرضها المحتلة، ضمن آلية محدّدة عبر عقد جلسات متتالية للخروج بموقف وطني موحد يصون السيادة الوطنية.

وعلى الحكومة أن تعتزم في أول جلسة لها توحيد قرارها السياسي كي تتمكّن الدولة من الإمساك بزمام أمورها بعيدًا عن التدخلات والوصايات الخارجية. هذه هي الخطوة الأساس التي تتيح للبنان فرض إرادته لاحقًا، والانطلاق في الداخل لمواجهة التحديات والتطورات، ولا سيّما الاعتداءات والأطماع "الإسرائيلية".

لكن توحيد القرار السياسي ليس بالأمر السهل، فعلى الحكومة التي من واجبها رسم السياسات العامة للدولة، أن تدعو إلى عقد حوار وطني جامع يسبق أو يواكب عقد جلساتها، على أن يتم الاتفاق على تحديد الأولويات التي تواجه الوطن، واتّخاذ موقف موحد بشأنها، فاستعادة السيادة لا تنفصل عن وحدة الموقف الداخلي المتمثل بالوحدة الوطنية.

وأمام لبنان العديد من المطبات والملفات الداخلية والخارجية التي تمس جوهر السيادة الوطنية، التي من واجب الحكومة دراستها بتمعن قبل أن تتسرّع وتتّخذ موقفًا حيالها، وجميع هذه الهفوات على عهدة حكومة سلام بعد وقف إطلاق النار في أواخر تشرين الثاني الماضي وهي: غياب رؤية إستراتيجية واضحة، التسرّع تحت الضغوط الخارجية، إضعاف الموقع التفاوضي للبنان، تجاهل الأولويات الوطنية بعد الحرب، إدارة سطحية لملف المقاومة والعلاقة مع الجيش، غياب الشجاعة السياسية في مواجهة الخارج، إضعاف الوحدة الوطنية، وإهدار الفرصة التاريخية لتعزيز السيادة والموقف الداخلي.

وكل هذه الهفوات الجوهرية التي ارتكبتها الحكومة في مقاربة ملف السيادة الوطنية، والتي أهمها الارتهان للإملاءات الخارجية، هدّدت وحدة الموقف الداخلي، وأضعفت قدرة لبنان على حماية أرضه وحقوقه في مواجهة العدوان "الإسرائيلي"، ما انعكس في سلسلة من القرارات المتسرّعة والمتناقضة مع الدستور والميثاق الوطني. بل كشف أيضًا عن إهمال للأولويات الوطنية مثل إعادة الإعمار واستعادة الأسرى، وعن إدارة سطحية لملف المقاومة والعلاقة مع الجيش. النتيجة كانت تعميق الانقسام الداخلي وتضييع فرصة تاريخية لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ الردع والسيادة.

المطلوب اليوم من الدولة اللبنانية أن تبني على تجارب الأمس القريب لتؤسس لإستراتيجية أمن وطني وفق سياسة دفاعية شاملة، وأن تكون السيادة أولوية على كلّ ما عداها فلا يوجد ‏أمن ولا استقرار ولا تنمية ولا نهضة من دون سيادة، ‏ويجب أن تتصدّى الحكومة اللبنانية لهذه المهمّة‎ مهما كانت الصعوبات وأن تطلق مشروعًا وطنيًا شاملًا تشارك فيه كلّ فئات الشعب ينتج عنه موقف جامع يرفض الهيمنة الخارجية من أي جهة أتت، وبذلك يسهم لبنان كلّه في إنجاز استقلاله واستعادة سيادته.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد