علي عبادي/ كاتب لبناني في الشؤون السياسية
لعل أكثر ما يتردّد على ألسنة السياسيين في لبنان، في هذه الأيام، عبارة "السيادة"؛ يتناقلها المسؤولون في كل تصريح وفي كل مناسبة.
يفترض العديد ممن يتداولون هذا المصطلح أن مشكلة لبنان الوحيدة التي تقف عثرةً أمام ممارسة سيادته على أرضه هي وجود السلاح بيد المقاومة، في حين يرى آخرون أن العقبة الكبرى تتمثل بافتقاد الدولة استقلالية قرارها عن القوى الخارجية ووجود وصاية دولية عليها في غالبية توجهاتها السياسية والأمنية والمالية غيرها.
بناء على ذلك يبرز مفهومان لممارسة السيادة في المرحلة الحالية:
الأول: يضيّق الموضوع، ويحصره في الناحية الأمنية، حيث يربط السيادة بحصر السلاح بيد الدولة.
تكمن الحجة المركزية لهذا الربط في أنّ حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الرسمية هي المدخل الطبيعي لفرض هيبة الدولة على كامل أراضيها. بمعنى آخر، يرى هذا الفريق أن الوجه الأساسي لتحقّق سيادة الدولة هو فرض السيطرة الداخلية على الأرض والشعب، وما عدا ذلك فهو قابل للتفاوض استنادًا إلى موازين القوى مع الأطراف الخارجية.
لكننا نعرف أن هذه الموازين ليست اليوم في مصلحة الدولة اللبنانية، خاصة إذا تخلت عن عناصر القوة لديها، وفي طليعتها الوحدة الوطنية والمقاومة. والسؤال المُلحّ هنا: ما أهمية فرض حصرية السلاح إذا كانت الدولة تتعرض لتآكل هيبتها ومكانتها من عدو خارجي؛ يستبيح أرضها ومياهها وسماءها؟ وكيف تسوّغ الدولة إصرارها على حصرية السلاح بقواتها وهو سلاح لا يردّ بالتجربة اليومية طامعًا ولا معتديًا، في وقت يتخيّر العدو أفضل الأسلحة ولا يتوانى عن استخدامها لفرض هيمنته وسلطته المباشرة على جزء من الأراضي اللبنانية وعلى المشهد السياسي والأمني العام؟
المفهوم الثاني للسيادة أوسع وأكثر تعبيرًا عن المصلحة العامة، ويلاحظ وجوب أن تكون الدولة قوية ومستقلة في قرارها الوطني، وتهتم بأن تكون مصالح شعبها فوق مصالح القوى الخارجية.
بهذا المفهوم والأداء، يمكن للدولة لمّ الشمل في البلد على أهداف مشتركة نابعة من إرادة وطنية، وغير موجّهة من الخارج إلى الداخل.
في الواقع، يدرك اللبنانيون جميعًا حجم التدخلات التي تستهدف الاستحواذ على القرار اللبناني وتوجيهه، سواء في السياسة أم الأمن أم الاقتصاد أو حتى في قطاعات الاتصالات والتربية و.... . ونجد الدولة مكبّلة بشبكة من الضغوط الدولية والإقليمية التي تضعف مكانتها وحركتها. وهي تجنح، في معظم الأحيان، إلى الركون لإرادة القوى الخارجية الضاغطة التي تملي شروطها ومطالبها بكل بساطة.
كما ندرك حجم الاختراق الخارجي للنخب السياسية اللبنانية التي تستجيب، في العديد من الأحيان، لتوجهات هذه القوى وأجنداتها أكثر مما تعبّر عن المصالح الوطنية. تاليًا، فأي سيادةٍ لدولة تُدار من الخارج؟ وهل النقاش الدائر عن السيادة وحصر السلاح يراعي المصالح الوطنية أم المطالب الخارجية؟ وبالتحديد أكثر، هل القوى الخارجية التي تطالب الدولة اللبنانية بتحقيق سيادتها في البعد الأمني الداخلي تبحث عن مصالح لبنان أم أن لديها أجندة إقليمية معينة (التطبيع مع العدو) تريد جرّ لبنان إليها شيئًا فشيئًا؟
كما يُطرح سؤال آخر: من يملي مسار الأحداث: هل هي الدولة اللبنانية أم القوى الخارجية المهيمنة؟ من يعيد ترتيب الأولويات، ويجعل الأكثر أهمية على الهامش، ويقدّم ما يمكن تأجيله؟ هل حدّد لبنان الرسمي أولوياته وأهدافه واستطاع أن يحقق أيًا من منها أو على الأقل ثبَتَ على أي من هذه الأولويات، أم انه يُفرض عليه في كل مرة أن "يسمع الكلمة" وينصاع لما يُطلب منه؟
لو أردنا أن نحاكم ما جرى منذ وقف إطلاق النار رسميًا، في الجنوب اللبناني في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لوجدنا أن المقاومة أفسحت المجال أمام الجيش اللبناني ليبسط سلطته على مناطق جنوب نهر الليطاني، على أمل أن تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية وينسحب العدو من الأراضي التي يحتلها.. لكن؛ ماذا حدث؟
ازدادت شهية العدو للحصول على تنازلات إضافية من لبنان، حيث دمر وجرف قرى بأكملها، وزاد من وتيرة توغلاته البرية، وطالب بتجريد لبنان من كل سلاح مؤثر، ويقصف بالفعل أي نقطة على الأرض اللبنانية بذريعة أنها تحوي سلاحًا يمكن استخدامه للدفاع عن البلد. إذا كانت هذه التجربة لم تنجح في تثبيت سيادة الدولة على جنوب الليطاني بعد إخلائها من سلاح المقاومة، فهل ستنجح لاحقًا إذا حقق العدو كل ما يريد من هيمنة مطلقة وسيادة كاملة على أجواء لبنان وقراره؟
يتغافل الداعون إلى حصر السلاح عن ظروف موضوعية فرضت وجود المقاومة في غياب الدولة. نذكر أنه، في وقت من الأوقات، كان هناك احتلال ولم تكن الدولة حاضرة بالفعل، فأخذت المقاومة دورها في مواجهة الاحتلال.
اليوم، ما يزال الاحتلال قائمًا، وهو يتمادى في عدوانه ويمنع لبنان من الإفادة من ثرواته البحرية، والدولة لا تملك جوابًا عن هذا التحدي. ثم ماذا عن أبسط الواجبات حيال الشعب في إعادة الإعمار واستعادة الأسرى وغير ذلك، هل تملك الدولة قرارًا واضحًا في هذا الشأن أم أنها تنتظر "التحنّن" الأميركي - بحسب ما يقول وزير الخارجية- والهِبات الإسرائيلية؟
كما يتجاهل الداعون إلى حصر السلاح محدودية قدرات الجيش، وأنّ أي معالجة أحادية لموضوع السلاح لا تلحظ توفير بديل قادر على حماية المواطنين هي دعوة للوقوع في الفراغ الأمني والانكشاف أمام عدو لا يرحم.
كذلك يتجاهل المتشددون في موضوع السيادة أنّ لبنان-الدولة لا يفتقد السلاح الدفاعي اللازم وحسب؛ استقلالية القرار أيضًا، وأن دعوى "حصر السلاح" بيد الدولة هي الوجه الآخر لتعويم وصاية خارجية معروفة. لا ننسى أن بنية النظام الزبائنية واعتماده المالي على الخارج وشبكات الولاء لقوى الهيمنة الدولية تجعل القرار السياسي والاستراتيجي غبّ الطلب.
فضلًا عن ذلك، يتجاهل هؤلاء أن فتح جدل داخلي حيال دور المقاومة يضعف المناعة الوطنية وموقف لبنان التفاوضي، بدلًا من الإفادة من الوحدة الوطنية عاملَ ضغط في وجه العدو.
بناء على ذلك، لا يمكن اختصار مفهوم السيادة في مسألة السلاح، إلا إذا كان المطلوب تحويل الجيش إلى قوى أمن داخلي وإنتاج دولة بوليسية تحوّل لبنان إلى مخفر كبير وتكون وكيلة عن قوى خارجية متحالفة مع العدو في فرض سيطرتها على الشعب، ومن أجل تأمين مصالحها بشكل أساسي.
باختصار، تحوَّل شعار السيادة إلى لازمة في الخطاب العام، وهو يختصر أزمةً وطنية مركّبة. إذ يحمّل البعض سلاح المقاومة مسؤولية غياب السيادة، لكنهم يتناسون أن جوهر المشكلة يكمن في الارتهان للخارج وفقدان القرار المستقل.
وعليه؛ فإن أي قراءة تختزل السيادة في بُعد وحدانية السلاح تغفل عن عناصر أساسية ضرورية لتجاوز الواقع الراهن، لعل أهمها توليد قرار وطني مستقل عن إرادة قوى الهيمنة الخارجية وصياغة استراتيجية دفاعية تحمي الشعب بدلًا من تركه في العراء يواجه الاحتلال وحده.