اوراق خاصة

في ذكرى اجتياح بيروت.. أهلها أوّل من دحر العدوان

post-img

جعفر سليم/كاتب لبناني

في الذكرى الثانية والأربعين لاجتياح بيروت، في العام 1982، تعود الذاكرة اللبنانية والعربية إلى واحدة من أكثر الصفحات المظلمة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. يومها؛ اجتاحت الدبابات شوارع العاصمة، وحوصرت المدينة تحت نيران القصف والتجويع، قبل أن تنتهي المأساة بخروج المقاومة الفلسطينية وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا التي هزّت الضمير الإنساني.

واليوم، وبينما نستعيد تلك الذكرى، نجد أن المشهد لم يتغير كثيرًا: "إسرائيل" تعاود احتلال جزء من الجنوب اللبناني، وتفرض واقعًا عسكريًا في محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فيما يمارس جيشها المؤلف من العصابات، في قطاع غزة، أبشع صور الإبادة الجماعية بحق المدنيين العُزّل، مكرّرًا أسلوب الحصار والتجويع والقتل الجماعي الذي خبرته بيروت، في الأمس.

إن التقاء ذكرى احتلال بيروت 1982 مع مأساة غزة الراهنة ليس مجرد مصادفة تاريخية، هو تأكيد على أن "المشروع الإسرائيلي" ما يزال قائمًا على العدوان والتوسع ورفض السلام. لكن ما يغيب عن حسابات الاحتلال هو أن الشعوب، وإن انهكتها الحروب، لم تفقد إرادتها في المقاومة. من بيروت إلى غزة، ومن الجنوب اللبناني إلى كل شبر محتل، يثبت التاريخ أن الاحتلال مهما طال سيبقى غريبًا، وأن ذاكرة الشعوب أقوى من كل آلة حرب. ولعل هذه الذكرى الموجعة تكون جرس إنذار للعالم الذي يواصل صمته: أن ما حدث، في الأمس، في بيروت يتكرر اليوم في غزة، وأن التواطؤ مع الجريمة لا يقلّ فظاعة عن ارتكابها.

نعود إلى الذكرى.. وبداية المقاومة

في الشهر السادس من العام 1982، دفع العدو الصهيوني قواته المحتشدة في مناطق كانت تسمى "دولة لبنان الجنوبي"، هذه "الدولة" اللقيطة التي تولاها ما سُمّي "جيش لبنان الجنوبي"؛ والذي شاركت عناصره إلى جانب جنود العدو الصهيوني، بالاعتداء على الأراضي اللبنانية، تحتل الأراضي تباعًا من الجنوب حتى وصلت هذه القوات إلى تخوم العاصمة بيروت.

وقعت مواجهات بطولية كثيرة، من الجنوب إلى البقاع الغربي والجبل وصولاً إلى الساحل. وشهدت مداخل العاصمة بيروت الجنوبية والشرقية والساحلية أشرس المعارك، شارك فيها فصائل من القوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية والقوى الإسلامية؛ فلم يتمكّن العدو من تجاوز خطوط القتال في مختلف المحاور، فاستمر حصار العاصمة أكثر من شهرين، والقصف يشتد من البر والبحر والجو، وذلك بعد انهيار وقف إطلاق النارِ، والذي أقرته الأمم المتحدة ولم يلتزم به الكيان الصهيوني، بدعم أميركي، كالعادة.

في الشهر التاسع من العام نفسه، وبعد توقيع اتفاق حمل اسم المبعوث الأميركي اللبناني الأصل "فيليب حبيب"، رُفعت السواتر عن جميع مداخل العاصمة، مع "الضمانات الأميركية" التي أعطاها المدعو "حبيب" للحكومة اللبنانية ولمنظمة التحرير. ونصّ أحد بنودها على حماية المخيمات الفلسطينية، بعد تسليم المقاومة الفلسطينية أسلحتها وخروج المقاتلين إلى عدة دول عربية، بموجب الاتفاق، وهذا ما حدث فعلاً.

 بعد أيام؛ سحقت هذه الضمانات بجنازير الدبابات الصهيونية وعجلات آليات العميل "سعد حداد" و"ميليشيا الجبهة اللبنانية"، وفي مقدمهم "القوات اللبنانية"، وتقدموا من الجهة الجنوبية والشرقية لينفذوا مجزرة كبيرة بحق المواطنين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين في منطقة صبرا ومخيم شاتيلا؛ ذهب ضحيتها الآلاف من الشهداء والجرحى.

بعد المجزرة المروّعة؛ توغل جنود العدو برفقة ميليشياتهم إلى شوارع بيروت الرئيسة، فخرج عليهم شبان بيروت، من مختلف الطوائف والعائلات التي صمدت أنذاك (الرفاعي-الفيومي-ماجد-الصياد-الخطيب-شاتيلا-أبو علفة-شبارو-رمضان-برو) وواجهوا،  كل بحسب إمكاناتهم، فارتفع منهم الشهداء، مثل الشهيد جورج نجم في ساحة كنيسة الوردية في منطقة الحمرا.. وغيرهم كثر من أبناء بيروت الشرفاء، وأولهم خالد علوان وعمليته الشهيرة "دفع الحساب علينا"، في مقهى الويمبي في شارع الحمرا، ضد ضباط العدو وجنوده.. وعذرا إن فاتنا ذكر أسماء الأحياء منهم والشهداء وهم كثر.. فقد كتبت بيروت لنفسها تاريخًا جديدا من المقاومة، وهي طوال تاريخها مقاومة لكل احتلال..

لقد كان لأبناء بيروت الشرفاء- أنذاك- الفضل الكبير في دفع جنود العدو وضباطه إلى رفع الصوت عبر المكبرات: "يا أهل بيروت؛ لا تطلقوا النار".. ليندحر بعد أقل من شهر مهزومًا، يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة من دون الالتفات إلى الوراء وإلى خطط حكومته، برئاسة الإرهابي مناحيم بيغن ووزير حربه أرييل شارون الهادفة لاحتلال العاصمة العربية الثانية بيروت بعد مدينة القدس.

يظن كثيرون، "وبعض الظن إثم"، إنّ محطات من التاريخ قد تعيد نفسها باتجاه واحد لمصلحة العدو وحلفائه في الداخل، متناسين أن هناك رجالاً أمثال "حبيب" "تصحّح" وجهة البوصلة باتجاه أحداث "سيادية" و"استقلالية" و"حقيقية"..! ولا يتلونون بألوان عملة ورقية خضراء..! من أمير فرحان بمنصبه أو مبعوث يشبه "فيليب" فنسي أكلة "الشيش برك"، لينقل ولاء هو غبّ الطلب، عبر تطبيق الواتساب.

لأهل بيروت نماذج يُعتز بها، أمثال النواب نجاح واكيم وزاهر الخطيب اللذين رفضا انتخاب من جاء على ظهر دبابة صهيونية، وسجلا بموقفهما وقفة عز بطولية، لم ولن تمحى أمام التهديدات بالقتل من لبنانيين حملوا شعارات التبشير بالزمن الصهيوني، وتقوم سياستهم دائما على الاستقواء بالخارج.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد