غسان ريفي (سفير الشمال)
كل المعطيات السياسية والميدانية تشير إلى أن العدوّ "الإسرائيلي" يحاول استدراج لبنان إلى تنازلات متلاحقة، وصولًا إلى تحقيق هدفه في التفاوض المباشر وتحت النار بما يمكنه من فرض شروطه المتعلّقة باستمرار الاحتلال وإقامة المنطقة العازلة وبحرية التحرك لاستهداف كلّ ما يهدّد أمن الكيان.
وبالرغم من كلّ الضغوط الدولية والإقليمية والاعتداءات المتواصلة، فإن موازين القوى في لبنان ما تزال عصية على أهداف "إسرائيل"، وبالتالي فإن كلّ خطوة باتّجاهها يُحسب لها ألف حساب، وأن ما تم تقديمه هو أقصى ما يمكن أن يُقدم في بلد شكلت مقاومته خط الدفاع الأول عن فلسطين، ونجحت في دحر العدوّ الصهيوني في العام ألفين، وانتصرت عليه في حرب تموز وصمدت أمامه في حرب الـ66 يوما، وأن أكثرية لبنانية ربما لا تريد الحرب لكنّها لا ترضى بالاحتلال ولا بالدخول في العصر ال"إسرائيلي"، ولا بتسليم السلاح إلا وفق تسوية شاملة وضمانات دولية.
أوحت "إسرائيل" بعدم رضاها أو انكفائها بتعيين مدني في لجنة الميكانيزم حيث أغارت في اليوم التالي لاجتماعها على أربع قرى جنوبية ودمرت عددًا من منازل المدنيين، وأمس الأول وفي غمرة الحديث عن النتائج الإيجابية للخطوة اللبنانية وكيفية الاستفادة منها، نفذت طائراتها الحربية هجمات جديدة على بلدات جنوبية بحجة متابعة الحملة على منشآت حزب الله، في حين أن ما تم استهدافه عائد لمواطنين لبنانيين مدنيين.
لذلك، فإن "إسرائيل" التي تسعى إلى إعادة رسم ميزان القوى في لبنان، تعمل على مسارين، المسار الأول، استثمار الضغط الدولي لسحب سلاح حزب الله، بما يُبعد عنها شبح المقاومة ويمكنها من تنفيذ أهدافها بحرية كاملة، في ظل إصرار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على وضع الحجر الأساس لـ"إسرائيل" الكبرى في لبنان وأن ينطلق منه في تغيير خريطة الشرق الأوسط.
أما المسار الثاني هو سعي العدوّ الصهيوني إلى الاستثمار في الانقسامات السياسية والطائفية القائمة في لبنان، وجعل ملف سلاح حزب الله بمثابة الشرارة التي كلما تراجعت نار الانقسامات سارع البعض إلى استخدامه من أجل تأجيجها.
لذلك، لم يعد مستغربًا كمّ التحريض وإثارة الغرائز والنعرات الطائفية والمذهبية الذي تستخدمه تيارات وشخصيات سياسية من أجل خلق بيئة قابلة للاختراق السياسي وربما الأمني، وفي حال نجح المحرضون في هذا السيناريو ووصلوا إلى ما يسعون إليه من فتنة تؤدي إلى توتر وفوضى، فإن الأبواب ستكون مشرّعة أمام "الإسرائيلي" لاستغلالها إما لدعم فريق ضدّ آخر في استحضار لأجواء عام 1982، أو للقيام باجتياح بري قد يصل إلى نهر الأولي أو ربما مجدّدًا إلى بيروت لتثبيت واقع يشرّع الاحتلال بالقوّة.
في غضون ذلك، يستطيع لبنان أن يفرض مسارا ثالثًا، في حال تعاطى كلّ المعنيين فيه مع التطورات بوحدة وطنية وبكثير من المسؤولية، عبر التمسك بالثوابت والعمل وفق الأولويات التي يعتمدها لجهة الانسحاب "الإسرائيلي" ووقف الاعتداءات وإطلاق الأسرى وإعادة الإعمار ومن ثمّ البحث في ملف السلاح وكيفية استثماره ضمن إستراتيجية أمن وطني، والاستفادة من الالتزام اللبناني باتفاق وقف إطلاق النار ومن قيام السلطتين السياسية والعسكرية بواجبهما كاملا، وإحراج أميركا والمجتمع الدولي ودفعهم للضغط على "إسرائيل" للالتزام ببنود الاتفاق، لكن من يستمع إلى تصريحات رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ومن يدور في الفلك "السيادي" والتي تجاوزت السرديات "الإسرائيلية" الأميركية إلى الضرب ببنية الدولة اللبنانية وتفكيكها، يُدرك حجم الانقسام الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام "إسرائيل" للاستثمار.