روجيه أبو فاضل (صحيفة الديار)
منذ اللحظة الأولى لوصول الشكوى إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، لم يُتعاطَ مع الملف كقضية احتيال عادية، بل كاشتباه خطِر وجدّي بوجود شبكة منظّمة عابرة للحدود تستهدف أحد أخطر مفاصل الدولة اللبنانية: الملكية العقارية وسلامة السجل العقاري. عند هذا الحد، تولّى النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش الإشراف المباشر على القضية، واضعاً الملف في عهدة مفرزة بيروت القضائية، ومصدراً توجيهات واضحة وصارمة بضرورة التوسّع في التحقيق وكشف كامل حلقات الشبكة من دون أي اعتبارات جانبية.
الشكوى التي أُحيلت بتاريخ 9 أيلول 2025 سرعان ما تبيّن أنها ليست سوى المدخل لكشف عملية احتيال عقارية واسعة النطاق، هدفها الاستيلاء على أربعة عقارات في لبنان تُقدّر قيمتها بنحو ثلاثين مليون دولار أميركي، تعود لوالد مقدّمي الشكوى، من دون دفع أي ثمن فعلي. التحقيقات أثبتت أنّ هذه العمليات لم تكن عملاً فردياً، بل جزءاً من مخطط منظّم تقوده رنا قليلات من خارج لبنان، وتحديداً من البرازيل، حيث تقيم منذ سنوات بعد فرارها من البلاد على خلفية عشرات الدعاوى القضائية المرتبطة بأزمة بنك المدينة.
وبناءً على توجيهات القاضي رجا حاموش، باشرت مفرزة بيروت القضائية تحقيقات دقيقة وشاملة، شملت التدقيق في أصل وكالات البيع، ومسار تسجيلها، وآلية التلاعب بها داخل أمانة السجل العقاري في بيروت. وقد تبيّن أنّ الشبكة اعتمدت على تزوير وكالات بيع رسمية، واستبدال وكالتين مزوّرتين بالوكالتين الأصليتين، ما أدّى إلى نقل الملكية شكلياً على القيود العقارية، في مساس مباشر وخطِر بصدقية السجل العقاري وبالثقة القانونية المفترضة في المعاملات الرسمية.
التحقيقات، التي جرت بإشراف لصيق من النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، كشفت كذلك بعداً إنسانياً بالغ الخطورة. فقد تبيّن أنّ رنا قليلات استدرجت رجل أعمال لبنانياً مسنّاً إلى البرازيل، حيث ارتبطت به، مستغلّة عامل السن والثقة، قبل أن تحوّل العلاقة إلى مدخل للاستيلاء على ممتلكاته العقارية في لبنان. ووفق ما هو ثابت في محاضر التحقيق، كانت قليلات تقوم بتوقيع الرجل على وكالات بيع لعقاراته، تُرسل لاحقاً إلى لبنان، ليجري تنظيم وكالات بيع بديلة من خلال أحد أقربائها لمصلحة أشخاص آخرين، من دون علم الضحية أو إدراكه الفعلي لنتائج هذه التصرفات.
ومع توسّع التحقيق وعملاً بتوجيهات القاضي حاموش التي شدّدت على تفكيك الشبكة بكامل عناصرها، تبيّن تورّط عدد من الأشخاص في تسهيل هذه الجرائم، بينهم سكرتيرة الزوج المسنّ، وعائلة مؤلفة من رجل وزوجته وابنهما، إضافة إلى أشخاص آخرين من بينهم كاتبة بالعدل أدّت أدواراً محورية في تنظيم الوكالات وتوثيقها وتمريرها، ما أظهر أن الشبكة كانت تعمل على مستويات متعددة وبأدوار متكاملة.
وفي ضوء الأدلة والمعطيات التي جُمعت، نفّذت مفرزة بيروت القضائية سلسلة توقيفات متلاحقة في تواريخ 23 و28 تشرين الثاني و1 كانون الأول 2025، شملت ج. ن. (مواليد 1987)، ع. ق. (مواليد 1998)، وه. م. (مواليد 1962)، بجرائم الاحتيال، وتبييض الأموال، والتزوير، واستعمال المزوّر، وذلك في إطار متابعة مباشرة من النيابة العامة الاستئنافية في بيروت.
وبعد إحالة كامل المحاضر والتحقيقات الأولية إلى النيابة العامة، باشر النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش دراسة الملف من زاوية ترابط الجرائم، ولا سيما لناحية استخدام العقارات والوكالات المزوّرة كأداة لتبييض الأموال وإضفاء طابع قانوني على عمليات احتيال منظّمة تُدار من خارج لبنان. وعلى هذا الأساس، ادعى القاضي حاموش على رنا قليلات وسائر المتورطين، ومن بينهم موقوفون، بجرائم التزوير، واستعمال المزوّر، والاحتيال، وتبييض الأموال، مع الاستمرار في ملاحقة الفارين واتخاذ التدابير القانونية اللازمة حيال العقارات موضوع النزاع.
بهذا المسار، للنائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش كركيزة أساسية في كشف واحدة من أخطر قضايا الاحتيال العقاري المنظّم، وفي إعادة تثبيت الدور المحوري للنيابة العامة في حماية الملكية الخاصة وصون الثقة بالسجل العقاري، ومنع تحويل الوكالات الرسمية والسجلات العامة إلى أدوات بيد شبكات إجرامية عابرة للحدود. وقد تميّزت توجيهاته للمفرزة القضائية في بيروت بالحزم والوضوح، إذ لم تقتصر على الجوانب التقنية، بل شملت التوسّع في التحقيقات والمضي في التوقيفات ولو تناولت أشخاصاً معروفين ومشهورين في الوسطين السياسي والاجتماعي، في رسالة قضائية واضحة مفادها أنّ العدالة لا تعترف بالأسماء ولا بالمواقع، وأن حماية الحق العام والملكية الخاصة تبقى فوق أي نفوذ أو اعتبارات.