يحيى دبوق (الأخبار)
لم تكن الضربة "الإسرائيلية" ضدّ قيادة حركة "حماس" في الدوحة، مجرّد ردٍّ على عملية القدس، أو على سقوط الجنود القتلى في قطاع غزّة، وهي ليست - على أيّ حال - "فرصة عملية"، كما قيل عنها في تل أبيب؛ بل شكّلت إعلان حرب شاملة على فكرة التسوية السياسية والحلول الدبلوماسية، وحملت رسالة إلى كلّ الأطراف المعنية والوسطاء، مفادها: لا تسوية من دون استسلام فلسطيني كامل.
ويُظهر سلوك "إسرائيل"، منذ السابع من أكتوبر 2023، أن الأخيرة لا تبحث عن حلّ دبلوماسي مع الفلسطينيين، في ما الخلاف داخل المؤسسة الأمنية نفسها، وبينها وبين تلك السياسية، ليس حول مبدأ التفاوض من عدمه، بل حول الوقت الأمثل لاستكمال الإبادة، وما إذا كان يُفترض أن يعقب إطلاق سراح الأسرى أم يسبقه، وإنْ عرّض هؤلاء للخطر؟
وفي هذا السياق، جاءت الضربة للدوحة، لا لتكشف النيّات "الإسرائيلية" والأميركية فحسب، بل لتؤكدها، في ما يمكن التوقّف في خضمّ تداعياتها عند النقاط الآتية:
1 - تمسّكت الرواية "الإسرائيلية"، ابتداءً، بذريعة "عملية القدس"، التي سقط فيها عدد كبير من القتلى والجرحى الإسرائيليين. إلّا أن ما تكشّف لاحقًا، أثبت أن العملية لم تكن سوى ذريعة جرى استغلالها كغطاء لقرار مُعدّ منذ أشهر. وعلى رغم التصريحات التي أفادت بأن "القرار اتُّخذ أول من أمس"، لكنّ الضربة لم تكن "فرصة"، بل "خيارًا إستراتيجيًّا مؤجّلًا"، ليس على خلفية معارضة عسكرية، بل بسبب حسابات داخلية وسياسية ودبلوماسية، وفي انتظار رضى الراعي الأميركي ومصادقته.
2 - تكرّرت السردية المعتادة في "إسرائيل"، بعد اعتداءات من هذا المستوى، والتي تقول إن هناك انقسامًا بين السياسيين والعسكر؛ إذ نشرت في الإعلام العبري، في أعقاب الضربة، روايات أفادت بأن هناك خلافًا بين الجيش والاستخبارات وأيضًا "الموساد"، وبين المؤسسة السياسية التي أصرّت على الهجوم، إلّا أن هذه الروايات مبالغ فيها دائمًا، وربّما هي مقصودة. والواقع أنه ليس ثمّة تناقض جوهري بين المؤسستَين الأمنية والسياسية حول "أصل" العملية، بل حول "توقيتها".
فـ"الموساد" لم يعترض على الاغتيال نفسه، بل طالب بتأجيله ليتحدّد موعد التنفيذ بعد إتمام صفقة تبادل الأسرى. أما الجيش، فلم يرفض الضربة، بل أعرب عن مخاوف من تأثيرها السلبي على صفقة التبادل، علمًا أن رئيس الأركان، إيال زامير، كان هدّد، قبل أيام فقط، بتصفية قيادة "حماس" في الخارج، قائلًا، في تعليقه على اغتيال الناطق باسم الحركة، "أبو عبيدة"، إن "معظم قادة الحركة المتبقّين يجلسون في الخارج، وسنصل إليهم أيضًا".
ويبدو أن الانقسام، إنْ وجد، هو بين إستراتيجية قصيرة الأمد، وأخرى طويلة؛ إذ تريد القيادة السياسية "صورة انتصار فورية"، في حين يفضّل الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى التفكير بتأنٍّ، ودراسة الخيارات واليوم الذي يلي، قبل التسرّع في اتّخاذ قرارات متطرّفة، يمكن تأجليها. لكنّ الجانبين يسيران على أي حال في الاتّجاه نفسه، ويتبنّيان الأهداف عينها.
3 - بدا واضحًا، على رغم النفي غير الكامل، أن واشنطن كانت شريكًا في القرار وفي التنفيذ، في ما الادّعاء بأن الولايات المتحدة "أُبلغت فقط"، هو محاولة غير موفّقة لتبرئة البيت الأبيض، وتقليل الإحراج أمام مَن تُعدّ حليفًا وشريكًا، أي قطر. ووفقًا للرواية الأميركية، تلقّى الرئيس دونالد ترامب خبر الضربة مُسبقًا، وكلّ ما قام به هو توجيه مبعوثه، ستيف ويتكوف، بإبلاغ الدوحة به. لكن، لو أراد ترامب، لكان قال "لا" مباشرة للإسرائيليين، وهو ما لم يفعله، وإن قال لاحقًا إن "الضربة لا تخدم مصالحنا".
ولعلّ ممّا يلفت الانتباه، السياقات التي سبقت الاعتداء في الدوحة، وتحديدًا تصريحات ترامب نفسه، عن اقتراحه ووساطته وتدخّله الشخصي في صوغ مقترح وإرساله إلى "حماس" لدراسته، وإعرابه عن أمله في إمكان تحقيق نتائج، تحت طائلة تدفيع الحركة أثمانًا باهظة، إذا ما عارضت الاقتراح. هكذا، أثبتت الإدارة الأميركية مجدّدًا أنها مستعدّة للتجنّد، ومن رأس الهرم السياسي فيها، في عملية خداعية، كي تنتصر ل"إسرائيل"، حتّى لو كلّفها ذلك صدقيّتها، وخيانة حليف إستراتيجي لها، والتسبّب في إنهاء قناة دبلوماسية حيوية. وهكذا أفعال، تثبت من جديد أن الولايات المتحدة ليست "وسيطًا"، بل هي راعية للحرب "الإسرائيلية"، بكلّ ما فيها من تجاوزات وخروقات وإبادة وتجويع.
4 - يشكّل الاعتداء "الإسرائيلي" - الأميركي على الدوحة، رسالة إلى الأنظمة الخليجية، مفادها "أنتم مطية، ولستم شركاء". فالضربة رسالة واضحة إلى هؤلاء، بأن "تحالفكم مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" لا يضمن لكم الحصانة". ويبدو أن واشنطن تثق ثقة تامّة بأنها مهما أهانت هذه الأنظمة، وانتهكت سيادتها، فإن الأخيرة لن تتجاوز الخطّ المرسوم لها، ولن تبحث عن تحالفات بديلة، الأمر الذي يعيد ترسيخ الحقيقة القائلة إن التحالف مع الغرب ليس شراكة، بل تبعية.
5 - لم يَعُد السؤال - في تل أبيب تحديدًا -، عن تداعيات الضربة، على رغم أهميتها، بل عمّا إذا كانت قد حقَّقت أهدافها. والإجابة عن ذلك غير واضحة إلى الآن؛ فمن جهتها، تؤكد مصادر الحركة أن القيادة نجت بالفعل، في ما ترى المصادر "الإسرائيلية"، نقلًا عن المؤسسة العسكرية، أن "الأمل يتراجع"، في إشارة إلى معلومات توحي بالفشل الاستخباري في سياق النجاح العملياتي. والفشل، إذا ما تأكّد لاحقًا، لن يعني فقط نجاة قادة "حماس"، بل إعطاء الأخيرة مبرّرًا للانسحاب من مفاوضات لاحقة، لا بد أن الجانب الأميركي سيدفع في اتّجاهها، لكن مع حوافز معتدّ بها هذه المرة، لحثّ "حماس" على استئناف العملية التفاوضية. أيضًا، ستكون "إسرائيل" أعطت قطر سببًا للانكفاء؛ والعالم صورة عن "دولة" تخرق وعودها والتزاماتها مع الآخرين؛ وهو ما كانت "إسرائيل" مستعدّة لتلقّيه بلا مبالاة، لكنّها الآن تتلقّاه بلا فوائد أملت في تحقيقها.
6 - كان واضحًا، في أعقاب الإعلان عن الاعتداء في الدوحة، التهليل الإعلامي "الإسرائيلي". فقد انزلق هذا الإعلام إلى موجة تعبيرات عن نشوة عالية المستوى: مذيعون يصفون العملية بـ"التاريخية"، وسياسيون يتحدّثون عن "نهاية حماس"، وآخرون يطلقون تهديدات بـ"تدمير غزّة". لكن في اليوم الذي يلي، تغيّرت العبارات وتراجع منسوب النشوة، ليحلّ محلّه ترقُّب وقلق. وإذ كانت وسائل الإعلام التابعة لرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الأبرز في هذا المشهد، فهي أظهرت الأخير في صورة قائد الحرب الذي لا يلين: قرار شجاع، تنفيذ دقيق، رسالة ردع واضحة؛ لكن تبيّن أن هذه الصورة مبنيّّة على رمال متحرّكة.
7 - ما سيلي، سيكون طريقًا مسدودًا بلا فرصة واقعية للانعطاف؛ إذ يُتوقع استمرار الفراغ الدبلوماسي، بلا وساطة قطرية، ومع تردّد مصري، هو ردّ فعل طبيعي على الاعتداء، الأمر الذي سيفضي بدوره إلى ترسّخ حرب الاستنزاف، التي قد تؤدّي لاحقًا إلى محاولة "إسرائيل" فرض إملاءات عبر تدمير مدينة غزّة. وفي هكذا سيناريو، ستكون تل أبيب وكذلك واشنطن، معنيتيْن بقنوات تفاوض لن يتطوّع لها أيّ طرف، بعدما أصبحت الخشية قائمة من "إسرائيل" وأميركا لدى الأطراف كافة: لا ثقة ولا ضمانات ولا احترام لالتزامات ولا مراعاة للقنوات الدبلوماسية التفاوضية.