أوراق سياسية

على من يقرأ جعجع مزاميره؟

post-img

محمد الحسيني (العهد)

أن يخاطب رئيس ميليشيا "القوات اللبنانية" سمير جعجع أبناء الطائفة الشيعية في لبنان ويطالبهم بتسليم سلاح المقاومة، ويرسل إليهم رسائل تطمين بأنهم لن يتعرضوا للقتل، فهو قمة النفاق الدعائي وضربٌ سافرٌ من ضروب المهزلة في السياسة اللبنانية. ليس الأمر متعلّقًا بمخاطبة شخصية ما لأبناء طائفة ما وجمهورها، فلبنان التاريخي موسوم بالتعددية الطائفية والتنوّع العرقي والديني، ومحكوم بالتخاطب والعلاقات التبادلية بين مكوّناته الثقافية والاجتماعية، ولكن أن يأتي هذا الخطاب من شخص مدان على شاكلة جعجع فهذا يدفع إلى التوجّس والريبة من الدوافع والأهداف.

جعجع تاريخ من الإجرام والادانات

تاريخ هذا الرجل يحفل بمحطات الارتهان للخارج والتآمر ضدّ وحدة لبنان، وتشهد له مواقفه انزياحه عن الخط السيادي الوطني وتسليم مقاليد إدارة البلد للأميركي و"الإسرائيلي"، وعلى العكس من ذلك لم يتردّد في استدراج تدخل سوري في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد - في نقطة التقاء مصلحية بين واشنطن ودمشق - وإسقاط الرئيس ميشال عون، وكلّ ذلك في سبيل استكمال تحقيق طموحه في تزعم الساحة المسيحية في لبنان، فكيف إذا كان هذا الرجل مدانًا بارتكابه العديد من الجرائم والمجازر بحق مواطنين لبنانيين على خلفيات مذهبية وطائفية من الشيعة والسنّة والدروز، وقتل بدم بارد الكثير من أبناء جلدته على خلفيات تضارب المصالح والهيمنة على القرار المسيحي.

لم يتخلَّ جعجع حتّى اليوم عن طروحاته التقسيمية في تحويل لبنان إلى مجموعة محميّات وكانتونات جيوسياسية تحمل الطابع الطائفي اعتقادًا منه بأن استيلاد مشروع الدويلة اللبنانية المسيحية في جبل لبنان وبيروت سيكون محميًّا من قوى الغرب، فيما ستخضع باقي الكانتونات إلى معادلة توازن القوى الإقليمية حيث تتداخل المشاريع العربية و"الإسرائيلية" والأميركية باتّجاه تحويل البلد إلى رصيف تجاري عالمي فاقد لصفة الدولة السيادية، ويمنّي جعجع نفسه في أن يكون المقاول العتيد لمثل هذا المشروع.

استحقاقات تعيد تشكيل لبنان

أن يطلق جعجع تطميناته للشيعة حصرًا لا يمكن فصله عن مجموعة من الاستحقاقات التي ينتظرها لبنان في مرحلة حساسة تتّصل بإعادة تشكيل السلطة السياسية وفق التقديرات الأميركية - "الإسرائيلية"، وأهمها:

استغلال حملة الضغوطات الأميركية - "الإسرائيلية" السياسية والاقتصادية على لبنان، والتي تستهدف الشيعة بشكل مباشر في كيانيتهم الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية، والمراهنة على وجود شريحة وسطية داخل الطائفة تستبطن استعدادًا للتخلّي عن خيار المقاومة والانتماء للثنائي الوطني. ويبني جعجع، بما يمثّله من خطاب أميركي - "إسرائيلي" بلسان لبناني، على نتائج الحرب العدوانية على لبنان المتلازمة مع الضغوطات، حيث لا تزال القرى والمناطق المدمّرة والمصالج المتضرّرة دون تعويض أو إعمار ربطًا بتسليم سلاح المقاومة.

استحقاق الانتخابات النيابية

السعي إلى إنشاء عوامل ضغط داخلية في الشارع الشيعي ما يربك أصحاب القرار في الطائفة الشيعية لجهة التعامل مع الاستحقاقات الداهمة، سواء لجهة التعامل مع الإملاءات الأميركية - "الإسرائيلية" في سياق تنفيذ قرار حصرية السلاح، أو لجهة تحضير البيئة الشيعية لخوض معركة الانتخابات النيابية المقبلة، خصوصًا أن جعجع يأمل في كسر حصرية التمثيل الشيعي من قبل الثنائي الوطني، فهذه الحصرية تقف سدًا منيعًا وعقبة كأداء أمام أي استباحة للقرار السيادي اللبناني، والذي يحتاج إلى الحضور الشيعي لاكتسابه ميزة الميثاقية في أي قرار مصيري يتعلق بلبنان الدولة والكيان.

لبنان دولة منزوعة السلاح

الاستفادة من الأجواء المهتزة داخليًا تحت عنوان نزع سلاح المقاومة لإطلاق برنامجه الانتخابي، ليس فقط في خوض معركة التمثيل النيابي بل لما يليها من تشكيل مؤسسات الدولة بدءًا برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وانتهاءً بتشريع التحاق لبنان بركب التطبيع، مع ما يرافق ذلك من إسقاط هوية لبنان كدولة عربية وإخراجه نهائيًا من حالة المواجهة مع "إسرائيل"، على غرار ما يحصل اليوم مع السلطة الفلسطينية حيث يطمح رئيسها محمود عباس إلى ضرب المقاومة وإنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وكذلك مع الحكومة السورية الجديدة حيث يقوّض العدوّ كلّ قدرة عسكرية فيها يمكن أن تحمل تهديدًا للأمن "الإسرائيلي"، ويسعى لتحويل سورية بكاملها إلى منطقة منزوعة السلاح، وهو الشعار نفسه الذي يطلقه "سياديو عوكر" بالنسبة للبنان.

استثمار اللغة الطائفية

الاستثمار في اللغة الطائفية وربطها بسياسة العصا والجزرة، وهو أسلوب عُمّم على جماعات البروباغندا من تلاميذ ديفيد شينكر وأموس هوكشتاين سابقًا ورعايا مورغان أورتاغوس وتوم براك حاليًا، والإيحاء بعلاقة طردية بين تسليم السلاح وازدهار لبنان ورخاء الشيعة أنفسهم، وغالبًا ما يلاحظ المتابعون تكرار عبارات محدّدة تردّدها فرقة عوكر للتطبيل الإعلامي، وآخرها عبارة "بدنا ناكل عنب"، ولكنهم لم يحدّدوا في بدعتهم الجديدة من هو الناطور!؟ هل هو "إسرائيل" أم المقاومة!؟ فإذا كان القصد هو الكيان المؤقت فذلك مؤكد في خلفية منطلقاتهم السياسية لأن "إسرائيل" أصبحت عندهم جهة حليفة لا عدوة، أما إذا كان القصد هو المقاومة أو الشيعة تحديدًا فهو تطمين في غير محلّه، كما لو أن ذئبًا يعطي الأمان للخراف بعدم أكلها طالما أنها مستسلمة!! وما نفع الناطور هنا إذا أُكل عنبه وأصبح بستانه بلا ثمار!؟

الصلح مع العدو

تكريس خطاب التسوية والصلح مع "إسرائيل"، وهذا ما لا يخفيه جعجع سابقًا وحاضرًا ومستقبلًا، ولكن اللافت أن أبواقه بدأت تجاهر بذلك علنًا ودون لبس أو مواربة، وتطالب الحكومة ببدء اتّصالات ومفاوضات غير مباشرة مع العدوّ في هذا السياق، وذلك تأسيسًا على مقولة "إن سلاح حزب الله لم يحمِ لبنان كما لم يحمِ حزب الله نفسه بقياداته وكوادره وتدمير مناطق بيئته، ولم يعد يمتلك سلاحًا قادرًا على ردع العدوان". وينطلق هؤلاء من تسويق هذه المقولة إلى محاولة إقناع اللبنانيين بمبدأ الهزيمة والاستسلام - على غرار مقولة العين لا تقاوم المخرز - وتسليم الأمر إلى المجتمع الدولي الذي سيعمد بالتأكيد إلى إقرار هيمنة "إسرائيل" على لبنان، فلماذا والحال هذه المضي في خيار المقاومة!؟ أليس من الأفضل الرضوخ للشروط الأميركية والحفاظ على ما لدينا من مقدّرات ونقل لبنان من دائرة الحصار إلى منطقة الأمان والازدهار!؟

نزع السلاح مقابل إزالة "إسرائيل"

صحيح أن حكومة نواف سلام قامت بخطوة تكتيكية بتراجعها عن تنفيذ قرار حصرية السلاح بالشكل الذي تضمنته ورقة الإملاءات الأميركية، فقد حسمت قيادة الجيش القضية سلبًا بسبب فقدان مقوّمات التنفيذ البشرية والمالية واللوجستية، فضلًا عن ضرورة تلافي إدخال البلاد في دائرة الاحتراب والتآكل الداخلي. ولكن فريق برّاك - أورتاغوس اللبناني لا يزال يعمل بوحي أميركي - عربي للضغط على الحكومة بالترهيب والترغيب لتنفيذ القرار، وفق ما تحدثت عنه صحيفة "نيويورك تايمز"، وهذا يعني أن ما جرى يعدّ هدنة مؤقتة تنتظر توافر ظروف داخلية أو خارجية لاستئناف الملف بشكل أكثر قساوة وتشدّدًا، إلا أن العقبة الأساسية أمام تحقيق هذا الهدف ستبقى كما هي على الرغم من "النفاق الرومانسي" لجعجع تجاه الشيعة، فإن السلاح لم يعد لدى بيئة المقاومة مجرد أداة للمواجهة، بل تحوّل إلى قضية وجود ومصير، ويستحيل نزعه لا بالسلم ولا بالقوّة إلا بزوال مسبّبات وجوده.. أي إزالة "إسرائيل".

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد