حمزة البشتاوي/ كاتب وإعلامي
من أجل غزة وأهلها، خاطر عدد من الأحرار الذين جاؤوا من البحار البعيدة بحياتهم من أجل أطفال الذين يعيشون على هامش جوع وموت وظلام طويل، ينشره الاحتلال والصمت والخذلان.
على سفن قادمة من بلاد بعيدة ربانها الأمل؛ تقدموا باتجاه شواطئ غزة بقلوب مؤمنة وشجاعة وقوة أخلاقية، طرقوا بها جدران خزان الخوف المسيطر على أنظمة وأحزاب ونخب عربية وواقع عربي أغلق الحدود وأقفل السماء وشيع الضمير بجنازة رسمية.
لكنّ الضمير العالمي لم يصمت وجاء أصحابه عبر البحر الذي لا يتصنع المودة، وتقدموا كنسمة وواجهوا الاحتلال الذي هاجم الأسطول واعتقل المتضامنين الأحرار كعاصفة ارتدت مظاهرات، في عدد من مدن العالم، في رد على العدوان على الأسطول الذي رأوه اعتداءً على الأمل والقانون والحرية والكرامة الإنسانية.
في خضم بحر العجز السياسي العربي والصمت والخذلان، عبر اسطول الصمود العالمي باتجاه شواطئ غزة، في محاولة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليها منذ ما يقارب 18 عامًا، ولتوجيه أنظار العالم أكثر نحو حرب الإبادة الجماعية المتواصلة منذ عامين، وتسليط المزيد من الضوء على المعاناة والكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
لقد استطاع الأسطول بناء شبكة دعم دولية للقضية الفلسطينية واستنهاض الرأي العام العالمي للضغط على الحكومات والمنظمات الدولية، وإطلاق صرخة مدوية للعالم أجمع تطالب بوقف حرب الإبادة وكسر الحصار.
يعمل أسطول الصمود العالمي، والذي يشارك فيه ناشطون وحقوقيون وسياسيون وأطباء وصحافيون ومواطنون، من عدة جنسيات بعزيمة قوية ومعنويات عالية، على الرغم من التعب والاعتقال والترحيل لجعل البحر ممرًا نحو الحرية وإجبار الاحتلال على وقف حرب الإبادة والتجويع والتدمير، وإيصال ما أمكن من وسائل إدامة الحياة إلى أهل غزة المجوّعين والمحاصرين..
من أهم الرسائل، أيضًا، كشف العواصم التي لم تتحرك، ولم تفتح الموانئ ولم تقطع العلاقات مع كيان الاحتلال، وهي بذلك لم تخرج من دائرة الخذلان السياسي؛ بل سقطت أخلاقيًا وإنسانيًا. وهذا السقوط لا ينفي وجود جزء أصيل يدعم ويساند، خاصة اليمن وغيره ممن قدموا الكثير من التضحيات، ولا يدينون الاحتلال بالبيانات ويصافحونه بالكواليس.
يعدّ تحرك أسطول الصمود العالمي بمثابة دعوة عاجلة للشعوب والحكومات والمنظمات الأهلية والإنسانية من أجل بذل أقصى الجهود لوقف الحرب، وتفعيل تحركاتهم كي ترتقي إلى مستوى المخاطر والتحديات، خاصة مع خطة ترامب التي تتطلب من الشعوب والنخب الثقافية والاجتماعية أن تبادر وتنهض بأفعال ومواقف عملية أزاء المخاطر والتحديات التي أصبحت تتجاوز حدود قطاع غزة والمنطقة. ولم يكن الأسطول مجرد حملة إيصال مساعدات، أيضًا، هو جبهة إنسانية بوجه الإبادة والتجويع ونداء عالمي لوقف الحرب والحصار على غزة، والتي أصبحت تسكن قلب العالم والتاريخ.
منذ انطلاقه؛ واجه أسطول الصمود العالمي تهديدات إسرائيلية ومحاولات اعتراض في عرض البحر وصولًا إلى الاعتقال والترحيل. ولكنّ المشاركين في الأسطول الذين يركبون البحر بعشرات السفن الصغيرة لا يخافون من تهديدات الاحتلال؛ لأنّ تحركهم ذات الطابع الأخلاقي والإنساني يشكّل اختبارًا حقيقيًا للقوى السياسية والهيئات الحقوقية الثقافية والاجتماعية، كي تغادر مقاعد المتفرّجين على الحرب الأطول والأشرس والأعنف مع كيان الاحتلال.
رفع الأسطول راية التضامن الإنساني فعلًا رمزيًا أخلاقيًا ضاغطًا على الحكومات والأنظمة لكسر الحصار عن غزة، وكسر جدار الصمت والخذلان، والتأكيد أن دعم صمود الشعب الفلسطيني هو مسؤولية جماعية من الضمير الإنساني العالمي، تتجاوز الزمان والمكان.
المسألة الأهم، في تحرك الأسطول، كانت أكبر ممّا حمله من مساعدات إنسانية رمزية، فقد حمل بحب وأمل شحنات هائلة من المعاني السياسية والثقافية والإجتماعية التي تتجاوز كل الحدود الجغرافية، وسط حضور أممي كبير على متن الأسطول؛ للتأكيد بأن ما يجري في قطاع غزة لم يعد قضية محلية أو أقليمية، بل رمزًا عالميًا جامعًا لحركات مناهضة الاحتلال والاستعمار والإمبريالية المتوحشة وانتهاكات حقوق الإنسان. كما يؤكد بأن قطاع غزة أصبح خط الدفاع الأول ضد منظومة مجرمة؛ أفعالها تشكّل خطرًا على الإنسانية جمعاء.

كما قال المشاركون في الأسطول، والذين لم تخفهم التهديدات والاعتداءات، وهم يتعرضون للهجوم الإسرائيلي: "نحن لسنا أبطالًا، نحن أشخاص لهم ضمير حي يهدفون إلى كسر الحصار عن كامل قطاع غزة الذي يتجرع مرارة وأهوال حرب الإبادة الإسرائيلية على مدار عامين. ونطلب من الجميع، خاصة وسائل الإعلام، الاستمرار بالحديث عن غزة وحرب الإبادة والحصار، وأن يتحرك العالم لمساندة غزة القضية العادلة، وفتح جبهة من جبهات النضال الإنساني في البحار وفي شوارع العالم ومحاصرة كيان الاحتلال أخلاقيًا، والتأكيد أن الشعب الفلسطيني ومعه كل أحرار العالم ماضٍ في معركة الحرية حتى إنهاء الاحتلال ووقف حرب الإبادة، وأن أسطول الصمود العالمي هو شاهد جديد على وحشيته، والقضية الفلسطينية هي قضية الشعوب المناضلة كلها بوجه الاحتلال والإمبريالية والتمييز العنصري..
لذلك؛ المقاومة هي رسالة أمل وقلوب شجاعة تؤمن بأنّ العدالة لا بد وأن تنتصر.. وأسطول الصمود ليس مجرد حدث عابر؛ هو بيان تاريخي يؤكد أن الإنسانية قادرة إذا اجتمعت على قيم العدالة والحرية بأن تطرق أبواب الضمير، وتكون صرخة غضب مدويّة بوجه الغزاة والطغاة... نقول لهم كما قال الشاعر محمود درويش:
هذا زمان لا كما تتخيلون ..
بمشيئة الملاح تجري الرياح .. والتيار يغلبه السفين.