د. ليلى صالج/ كاتبة لبنانية
مرّ الفكر السياسي المعاصر بمحطات مفصلية، أُنتجت سياقات ومدايات وصولًا إلى عصر الآحادية الأمريكية، حين قارب مفكرون ومعاصرين مفهوم "بناء الدولة"؛ فأجمعوا على تأثير الفاعلين السلطوين في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام وصولًا إلى لمجال النفسي (العنف الرمزي). وكان لتصدر منظومات اقتصادية مهيمنة عابرة للقارات، ودور سياقي فاعل في تشكيل المنظومة القانونية والقيمية لدول النظام العالمي التي وقعت تحت هيمنتها، وما تزال الفاعل المؤثر في رسم سياستها الداخلية والخارجية، وقد نتج استصلاح كثير من المفاهيم السياسية، أي إعطاؤه تسمية ثابتة، ليُتداول بها بين الباحثون وصناع القرار، ويأتي في مقدمتها مصطلح "بناء الدولة".
علاقة النظام السياسي العالمي بالدول
يرى "روبرت دال"بأن النظام السياسي اليوم "هو نمط من العلاقات الإنسانية المستمرة، يتضمن التحكم والنفوذ والقوة أو السلطة، بالإقناع أو العزم او القدرة بدرجة عالية". وبرأيه بعد وصولنا إلى العصر المابعدوي (ما بعد الحداثة، ما بعد النظرية، ما بعد الدولة، ما بعد القومية، ما بعد ثورة التكنولوجيا،ما بعد ثورة المعلومات، ما بعد الإنسانية، الخ..) أدى تراكم القوة الناعمة إلى جانب القوة الخشنة إلى الإغراق في إرهاصات التكنولوجيا الحيوية المعاصرة وتوظيفها في خدمة السياسة والعسكرة.
كما يرى "ألان تورين" بأن الفاعل الاجتماعي لا ينبغي النظر إليه من موقعه في الدولة أو المؤسسات، بل من خلال قدرته على التأثير في تشكيل المعنى التاريخي والاجتماعي، بما هو قوة قادرة على إحداث تغيير في هذا النظام. وفي سياق البحث عن أسس حداثوية جديدة لتأكيد الذات، عاد لربط الحداثة بتفكيك معنى الحياة والتدفق الاقتصادي والسلطة من دون مركز وغياب الفاعلين الاجتماعيين، ونظر إليها على أنها تهديد بالاستبعاد الاجتماعي وفقدان الهوية كونها غزو الكونية ضد الخصوصيات التي بدت كأنها تتحلل.
هذا التأسيس السياسي المعاصر يؤسس لمقاربات بحثية، نطرح فيها تساؤلات جوهرية مستفيدين من هذه الطروحات في تحليلهم للسلطة السياسية والتعددية، وقدرة الفاعل الاجتماعي على إحداث تغيير في النظام السياسي للتأسيس النظري في نمط الفكر السياسي الحداثوي وقدرته على انتاج أو تبني رؤى فكرية سياسية لفاعلين جدد في بناء دولة حديثة تنبثق من الثوابت التاريخية الاجتماعية والثقافية لهذه الدول وقدرة هذه الثوابت بالتفاعل الإيجابي مع المتغيرات المرحلية بارتكزتها على الثوابت ذاتها.
التمايز بين "تشكل الدولة" و"بناء الدولة"
لقد أتى مفهوم "تشكّل الدولة" نتيجة سيرورة اجتماعية-تاريخية طويلة، تدرّجت فيها السلطات والمؤسسات، وتحولت معها المجتمعات من أنماط تفكك (قبائل، إقطاع، إمارات) إلى تنظيم مركزي يُسمى "الدولة". لقد ربط الفكر الغربي المعاصر مفهوم الدولة "بالقدرة على فرض السيادة بالقوة والاكراه"، وبهذا المعيار أصبح مفهوم الدولة يعني المؤسسات والممارسات التي تنجح من خلالها الطبقة الحاكمة في الحفاظ على التبعية التوافقية لأولئك الذين تحكمهم، ثم تطور مفهوم الدولة فأصبح يعني مجمعًا مؤسسيًا يدعي السيادة لنفسه، كون السلطة السياسية العليا داخل إقليم محدد يدّعي مسؤوليته عن حكمه".
بينما "في المنظومة الإسلامية يشير مفهوم تشكّل الدولة (State Formation) إلى العملية التاريخية الأولية التي أدت إلى بروز كيان الدولة، يعبر عن مرحلة مفصلية تعكس التحول من براديغم سياسي إلى آخر، فبما وصلنا، انبثق مفهوم الدولة من رحم النص المؤسِّس (القرآن والسنة)، فتشكّلت الدولة الأولى في المدينة النبوية سنة 622 ميلادية من وضع أسس الدولة الإسلامية، في مجتمع متجانس، المواطنة فيه المؤاخاة بين أفراده، في مجال حضاري يجمع بين السياسة والدين، ويُؤسَّس فيه التسلّط السياسي على مشروعية دينية تتوسل مفاهيم مثل الشورى والبيعة والإمامة. وقد بقي نموذج الخلافة بوصفه تعبيرًا عن وحدة الأمة امتدادًا للوظيفة الرسالية للإسلام. و"بتسلم الإمام علي- عليه السلام- مقاليد الدولة الإسلامية، عمل على إعادة بناء هيكل المواطنة المثالي بمجانسة أفراد المجتمع المتنافر عن طريق إعادة الإخوة الإسلامية إلى النفوس، وفك الهيمنة القبلية بتحويل الولاء للدولة، فالدولة في فكره- عليه السلام- يجب أن تقوم على التجانس الإنساني داخل المجتمع بصهر الطبقات في بوتقة المساواة، وإذابة فوارق الجنس والتعصب للأخلاق الحميدة.
حديثًا، قدمت الجمهورية الإٍسلامية الإيرانية المعاصرة تجربتها الدولتية بالدمج بين "ولاية الفقيه"، كونها عقيدة في الدستور الإيراني وبين النظام المدني الجمهوري، فعَرّفَ الإمام الخميني "السيادة الشعبية" بالوجه الإسلامي للديموقراطية. هذا التقدم التطبيقي في الفكر السياسي، فتح أفق الفكر أمام الحركات الجهادية العقيدية إلى تبني رؤى سياسية لدولة مدنية تجمع بين المفاهيم المعاصرة لبناء الدولة والعدالة الاجتماعية التي في نتاجها السياسي الاجتماعي لا تتعارض والمواطنة بارتكازها إلى المساواة بين مصالح الدولة وسيادتها في النظام العالمي.
أما مفهوم "بناء الدولة" المعاصر فهو يستخدم للدلالة على عملية متعمدة لإقامة سلطة شرعية ومؤسسات فعالة ومنظومة قانونية قادرة على إدارة السكان والإقليم، وقد اُستخدم للإشارة إلى العمليات المقصودة لتطوير مؤسسات الدولة في مرحلة الاستعمار، من الفاعلين السلطويين بعد استقلال الدول، أو انهيار الدولة في الأزمات، ومن النماذج التطبيقية:
• لبنان بعد الطائف (1990): محاولة لبناء دولة موحدة بعد الحرب الأهلية.
• العراق بعد 2003: مشروع أمريكي لإعادة بناء الدولة بعد إسقاط النظام.
• ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية: مثالان على بناء الدولة بعد انهيار شامل بإشراف خارجي.
بناء الدولة في الرؤية السياسية لسيّد الأمة
كانت علاقة المقاومة بالدولة، على مدى عقود، تخضع لإشكاليات كبرى، ذهب كثيرون فيها إلى مديات أبعد، حين جرى فيها ربط الموضوع بنظرة الطائفة الشيعية إلى الدولة وعلاقتها بالكيان اللبناني، وتجاوزًا لمناقشة تأسيس الكيان اللبناني بفصله عن المحيط السوري، ليؤدي وظيفة البوابة المالية للمشروع الاستعماري الاقتصادي في المنطقة، لا أحد يناقش في أساس ارتهان السيادة في الدولة اللبنانية لتقلبات وحسابات المشاريع الكبرى في المنطقة، وما تزال.
إذ كل بنية على صلة بالمجال السياسي، تنطوي على ثوابت ومتغيرات، فهي بالتأصيل ترتكز إلى مفاهيم مركزية ثابتة تتسم بالديمومة وبالتفريع يجعلها تتسم بالتغيّر والتطور تبعًا لطبيعة المرحلة. هذا ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية بالبرنامج السياسي للحزب أو للتنظيم أو لحركة السياسية. و"حزب ألله" التنظيم السياسي اللبناني، يوصفه سماحة الشهيد الأقدس في أكثر من مناسبة ولقاء تلفزيوني مباشر، بأنه "حركة جهادية إيمانية"، إشارةٍ إلى البنية الفكرية- السياسية لحزب الله،.و وقد مرت سياقات سياسة المقاومة في ترتيب أولوياتها السياسية بالتصدي للعدو الصهيوني التي هي بوصلة حراكها وجمعنتها السياسية والتعبوية، وصولًا للانتصارين(2000-2006) الذي سمح بمرحلة استقرار نسبي تجاوزت العقدين، سمحت للفكر السياسي في بلورة رؤية تجاه الدولة على نحو متكامل، ارتسمت عناوينها الكبرى ومرتكزاتها الأساسية في محطات عدة ومواقف مختلفة ووثائق جرى إعدادها، كشف بعض ملامحها نائب كتلة الوفاء للمقاومة علي فياض. وثمة وثيقة سياسية قدمت مقاربة مفهومية وقطاعية عن مختلف الجوانب التي تُعنى بها الدولة، تحت عنوان: «نحو دولة قادرة وعادلة»، وفي مرحلة تالية، جرى تطوير هذه الوثيقة وإدخال تعديلات عليها، نتوقف عند أبرز ملامح رؤيته وفق ما ورد في خطاباته:
هوية لبنان.. وطن لجميع أبنائه
".. كل ذلك وغيره بالنسبة إلى حزب الله هدفه الوصول إلى “حماية لبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه وبناء الدولة العادلة والقادرة انطلاقا من مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية بين مختلف المكونات بعيدا عن الاستئصال والالغاء والوصول الى دولة سيدة مستقلة حقيقية، وفي قراراتها لا تخصع لا لسفارة أميركية ولا لأي هيمنة خارجية."
يعلن سيد شهداء الأمة في إحدى لقاءاته، أن شورى القرار في حزب الله اتخذت قرارًا لا يزال طيِّ الكتمان، وهو يعلنه على مسؤوليته، يتبنى لبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه، وهذا التبني يمكن استتباعه لمنهج السيد موسى الصدر في رؤيته السياسية للكيان اللبناني بما هو واقع قائم بعد العام 1943، ليحل إشكالية كبرى عالجها اتفاق الطائف، قبل أن تتحول إلى نص في الدستور اللبناني.
لم ينطلق السيد الشهيد، من رضاه عن مشروع تقسيم المنطقة إلى دويلات من الاستعمارَين الفرنسي والإنكليزي، فهذا يتناقض مع رؤيته وعقيدته السياسية، إلاّ أن الواقع الذي تكرَّس في تلك المرحلة، بانهيار المشاريع العربية الوحدوية في مواجهة التقسيم، بعدما تبددت خيبات أمل المشروع العربي لأسباب أهمها، أداء الملك فيصل نفسه، والذي كان يُجري اتصالات سرِّية مع الفرنسيين، فالمقاومة العاملية ضد المحتل بثوابتها العقيدية الجهادية، لا تساومه على ثوابتها السيادية والكربلائية. وفي النتائج، دفع جبل عامل، والذي تُرك وحيدًا من دون مؤازرة من رفاق الخيار الوحدوي، ثمنًا باهظًا، عندما اجتاحه الفرنسيون، ومارسوا تجاهه سياسة الإفقار والإذلال والتهميش. وفي غضون سنواتٍ خمس، شكّلا مصدر التكوين التاريخي الحديث للهوية السياسية للشيعة اللبنانيين، بعد أن قاد السيد عبد الحسين شرف الدين موقف الشيعة الموحد في العام 1925، في بلدة النبطية، للحؤول دون انزلاق جبل عامل إلى اضطرابات أمنية، تتناقض وطبيعة المرحلة الجديدة مع انفجار الثورة السورية الكبرى. واستكمل الإمام الصدر تجربة الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، والذي يرى فيها "فياض" بأنها ورثت التوجُّه الشيعي برافديه التاريخيين (الوحدوي والكياني)، إذ باتت متمسكة تمسكًا راسخًا بنهائية الكيان اللبناني وخصوصيته، مقترنًا مع ترجمة الانتماء الوحدوي بانحياز صلب للقضية الفلسطينية ونزوع تحرري وطني في مواجهة الكيان الصهيوني، وإدراك عميق لموجبات الجغرافيا السياسية اللبنانية الضيّقة التي تحتاج دومًا إلى عمق جيوإستراتيجي يسدّ مواطن ضعفها." وحين ثبتت مقولة السيد موسى الصدر" لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه" في مقدمة الدستور، ترجمت بإنشائه مؤسسات شيعية للاندماج والمشاركة في مشروع بناء الدولة، وصولًا إلى تبني "حزب الله" المقولة ذاتها في رؤيته السياسية لبناء الدولة حاسمًا جدلًا تاريخيًا في العلاقة مع الكيان اللبناني، ما يلزمه من مشروعية حكم للدولة، وترتكز عليها مرتكزات بناء الدولة.
المواطنة هي التفاهم والحوار.. خيار لا بديل عنه للطوائف جميعها
أدرك سماحة السيد الأقدس خصوصية الكيان اللبناني وميّزاته وفرادته بالمقارنة مع طبيعة الكيانات الأخرى، وجهد في تحويل التحديات القائمة من المتغيرات إلى فرص. وبانكبابه على القراءات التاريخية، نلاحظ دخول البعد التاريخي في تحليله ومواقفه وبلورته لرؤاه أزاء التحديات المعاصرة. وإن أثمرت اهتماماته في مناقشة التحليل التاريخي السياسي مع المعنيين المتخصصين، إلى ارتياحه لما آلت إليه الأمور في العام 1920، بأن أصبح جبل عامل جزءًا من دولة لبنان الكبير، هذا الارتياح أسس لمواجهة مرحلة جديدة مع شركاء وطنيين، سعى دائمًا سماحته في خطاباته إلى الحوار والتفاهم للوصول إلى مقاربة جامعة لمفهوم المواطنة بتحديد مرتكزاتها.
الدولة العادلة والإصلاح ومواجهة الفساد
"..ما أنجزته المقاومة، في الداخل اللبناني على صعيد خدمة الناس، هو أساسي بالنسبة إلى المقاومة، وقد وبرز بشكل كبير خلال الأزمة التي يمر بها لبنان حاليًا بسبب الحصار الأميركي على البلد. كما أن المقاومة طالما جنّبت لبنان الانزلاق نحو الفتن الداخلية ضمن مختلف الساحات؛ لأنها ترى أن أي خلاف داخلي في الشارع تزهق به الأرواح ويهتز به الاستقرار، لا يخدم إلا العدو الاسرائيلي. ومما لا شك فيه أن محاربة الفساد هي من الأولويات عند حزب الله … أطلقنا مشروع مكافحة الفساد؛ وقلنا منذ البداية إن هذه معركة طويلة ويجب أن نواصلها وأساسها الوصول إلى قضاء نزيه ومستقل... "
يعدّ مسار الإصلاح من المقومات الأساسية في بناء الدولة، إذ يدعو سماحته إلى العمل على توفير مقوِّمات الدعم والنجاح كلها لمسار الإصلاح ومواجهة الفساد بأشكاله كلها، بأطر قانونية عادلة في متابعة ملفات الفساد وتحت سقف مؤسسات الدولة. ذلك أن التداعي في قدرة الدولة على تأدية وظائفها الأساسية خطير على بقائها، فضلًا عن تحوُّل عدم الاستقرار إلى سمة دائمة في الحياة السياسية اللبنانية، والذي بات مولِّدًا لصورة الدولة الفاشلة والمجتمع المتفسِّخ والاقتصاد المُنهار. إذ استُنفدت الهوامش كبها التي تتيح الاستمرار بفي وضع انهيار الدولة وتأجيل الحلول، فضلًا عن ارتهان إدارتها للإذعان للخارج، والذي من شأنه أن يهدد الاستقرار الداخلي ويطيح بمسار التعافي السياسي والاقتصادي، فالفساد آفة أخلاقية تفتك بالمجتمعات، ووأهميتها تصل إلى مستوى الأمن الوطني.
في هذا الصدد يقول سيد شهداء الأمة: كما أن "مكمن العقدة الكبرى، في بناء الدولة وإصلاح النظام السياسي، في الوقت الذي اتهمت فيه المقاومة بإعاقة بناء الدولة والتلطّي وراء هذا الاتهام لإخفاء جوهر المشكلة وللتملص من استحقاق الإصلاحات التي تمثل التزامًا ميثاقيًا واجبًا على المكوّنات اللبنانية كافة. وفي هذا السياق، يجب أن تنتهي مدة السماح والتهاون أزاء الإمعان في الممارسات الطائفية التي تتجاوز الأصول والقواعد التي يتضمنها الدستور وتستند إلى اتفاق الطائف، تحت أي مسمى" .
السيادة- الدولة القادرة القوية
يؤكد سماحة السيد الأقدس بأن المقاومة ولدت بالأصل من رحم البيئة اللبنانية، في ظل فراغ الدولة وإهمال الدولة لمسؤوليتها في الدفاع عن الجنوب بأغلبيته الشيعية.. وبرأيه أنه كلما تقدمت الدولة في تطوير قدراتها الدفاعية والردعية تنتفي الحاجة إلى المقاومة. هذه المقاربة والشفافة والصادقة لدور المقاومة تشكّل المدماك الأساسي في بناء الدولة القوية.