يوسف فارس (الأخبار)
منذ اللحظات الأولى لصدمة عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023، كان واضحاً أننا إزاء تعاطٍ إسرائيلي مختلف عمّا عاشه الغزّيون في أثناء 15 عاماً، خاضوا فيها غمار 4 حروب مدمّرة؛ هذه المرة، لا اعتبارات إسرائيلية لأعداد الضحايا وهوّياتهم، ولا حسابات للمناطق المكتظّة وقت القصف. في العاشرة من صباح الثامن من أكتوبر، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية بعشرات الغارات، 5 بنايات سكنية عند مفترق الترنس، وهو أكثر مناطق مخيم جباليا اكتظاظاً. قيل حينها إنّ الهدف هو قتل مجموعة من الجنود الأسرى مع خاطفيهم، وكانت «الأضرار الجانبية» استشهاد وإصابة نحو 250 مواطناً وإدراج العشرات في عداد المفقودين.
تلك الحادثة، أنبأت بما هو آتٍ. في الحروب السابقة، كانت حالات القتل الجماعي مرتبطة بحدث استثنائي أو هدف دسم جدّاً. وقد درج الغزّيون على استذكار مجازر كبيرة ارتُكبت في الحروب، من مثل الجمعة السوداء في رفح في حرب عام 2014، والتي قُصفت فيها السوق المركزية هناك وقضى من جرّائها 100 شهيد، وربطها الإعلام الإسرائيلي بتطبيق إجراء «هنيبعل» لإحباط عملية اختطاف جنود. كما يستذكرون مجزرة الشجاعية الكبرى التي أُخلي فيها السكان تحت وطأة القصف الجوي والمدفعي المكثّف، وسقط المئات من الشهداء والمصابين في الحرب نفسها.
أمّا الذي تغيّر في حرب الإبادة، فهو أنّ المجازر الجماعية صارت عادية، بل باتت حدثاً يتكرّر عدة مرّات يومياً. وفي اليوم الثالث للحرب، تحوّل جيش الاحتلال من منطق الجيش الذي لديه ضوابط «أخلاقية» (نسبية وظاهرية) وعملياتية لإطلاق النار، إلى شيء يشبه عصابة «تدفيع الثمن»، وهي جماعة من المستوطنين المتطرّفين اليمنيين، تأسّست عام 2011 بشكل سرّي في الضفّة الغربية المحتلة، ونفّذت مئات الاعتداءات والجرائم بحقّ الفلسطينيين، وهي تنطلق في عملياتها من دوافع انتقامية بحتة، وتستند إلى أيديولوجيا الكراهية الشديدة والرغبة العارمة في الانتقام من الفلسطينيين.
هكذا، صار هذا الفكر نهجاً تتبنّاه دولة وجيش، وانعكس في سياسة قصف المنازل المأهولة على رؤوس سكّانها. في حيَّي تل الزعتر والسلاطين في شمال غزة، دمّر جيش الاحتلال عند الخامسة فجراً، 3 منازل مأهولة بالسكان، الأول يعود إلى عائلة القطناني وسقط فيه نحو 25 شهيداً هم العائلة الممتدّة، بما فيها الآباء والزوجات والأمهات والأطفال. والحدث ذاته تكرّر في شرق مخيم جباليا، حيث دمّر مربّعاً سكنياً بأكمله، بحجّة استهداف منزل عائلة حمدان. وإذ لوحظ تعمّد العدو استخدام قنابل كبيرة جدّاً يتجاوز أثر تدميرها المنزل المستهدف، فقد استشهد في محيط هذا الأخير 10 مواطنين، إضافة إلى 5 من سكان البيت. وعلى بعد عشرات الأمتار، قضت عائلة شاهين، تحت ركام منزلها وأُصيبت العشرات من المنازل المحيطة.
على أنّ ذلك النهج سيغدو روتيناً يومياً؛ إذ بعد بضعة أيام من مجازر العائلات المتكرّرة، وتحديداً مساء 12 تشرين الثاني، ارتكب جيش الاحتلال أول وأكبر مجازره الجماعية التي ستصبح مع تقادم الإبادة حدثاً شهرياً على أدنى تقدير، حيث قصف بعدد من القنابل الفتّاكة باحة المستشفى «الأهلي المعمداني» في حي الزيتون وسط البلدة القديمة لمدينة غزة، متسبّباً باستشهاد 471 نازحاً، جميعهم مدنيون نزحوا من المناطق الشرقية لحيَّي الشجاعية والزيتون طلباً للحماية.
ورغم محاولة العدو التنصّل من الجريمة بزعم سقوط صاروخ فلسطيني محلّي على المستشفى، فإنّ الأشهر اللاحقة للحدث، أثبتت أنه لم يكن إلا توطئة لما هو قادم. ففي 31 تشرين الثاني 2023، ألقت طائرات حربية 7 أطنان من القنابل المتفجّرة على حي السنايدة المكتظّ بعشرات الآلاف من السكان في مخيم جباليا شمال غزة. وتسبّبت المجزرة باستشهاد 400 مواطن وإصابة الآلاف بجروح، فيما أُدرجت أسماء المئات في قوائم المفقودين، وشُطبت عشرات الأسر من السجل المدني، ومنها عائلات أبو نصر وأبو القمصان وحجازي ومسعود والبهنساوي وعكاشة.
في السنة الأولى من الحرب، بدا أنّ تلك المجازر تحوّلت إلى حدث اعتيادي، إذ سُجّلت في تلك السنة فقط، 10 مجازر كبرى، أبرزها في مدرستَي «تل الزعتر» و«الفاخورة» في 18 تشرين الثاني 2023، حيث قضى نحو 200 شهيد؛ ومجزرة مستشفى «كمال عدوان» الأولى في 16 كانون الأول 2023، في مشروع بيت لاهيا شمال غزة، التي بقيت ملابساتها غامضة إلى اليوم، بعدما داست جرّافات الاحتلال، على نحو مفاجئ، عشرات الخيام التي تؤوي المئات من النازحين وطمرتهم أحياء تحت التراب؛ ومذبحة مخيم المغازي في الـ24 من الشهر نفسه، والتي سقط فيها نحو 70 فلسطينياً من جرّاء استهداف مربّع سكني.
وتضاف إلى ذلك، مجازر الطحين على مفترق النابلسي، التي قضى فيها المئات من الجوعى في أشهر المجاعة مطلع سنة 2024، ومجزرة مستشفى «الشفاء» في أواخر آذار 2024، التي استشهد فيها نحو 300 نازح في المستشفى، ومذبحة مخيم النصيرات الكبرى وسط القطاع التي قضى فيها نحو 240 فلسطينياً، في أثناء عملية تحرير أسرى إسرائيليين، وجريمة المواصي في 13 حزيران 2024 التي سقط فيها نحو 90 شهيداً، وجريمة مسجد التابعين في 10 أيلول 2024 التي ارتقى فيها 100 فلسطيني في قصفٍ استهدف مصلى مركز إيواء في أثناء صلاة الفجر، ومجزرة عائلة أبو نصر في 29 تشرين الأول 2024 التي راح ضحيّتها 270 شهيداً في استهداف بناية سكنية نزحت إليها العشرات من العائلات في أثناء حصار مخيم جباليا الثالث.
في الأشهر الأولى، كان جيش الاحتلال يكلّف نفسه عناء تقديم المبرّرات التي تدفعه إلى تدمير المنازل وارتكاب المجازر الجماعية، من مثل الزعم بأنّ مصطفى شاهين، وهو شاب لم يتجاوز الـ18 عاماً من عمره، كان واحداً من المصوّرين العسكريين الذين ظهروا داخل موقع للجيش الإسرائيلي في السابع من أكتوبر؛ علماً أنّ بيان الجيش وقتذاك حمل إشارة إلى أنّ كل من شارك أو دخل إلى السياج الفاصل سواء كان مدنياً أو عسكرياً، مصوّراً أو مقاتلاً، سيدفع مع عائلته الثمن بالقتل على هذه الشاكلة البشعة. أمّا في وقت لاحق من الحرب، وحينما أصبح سؤال «ليش قصفوهم؟» يتكرّر في الشارع الغزّي عقب كل مجزرة جماعية، لا سيّما تلك التي كانت تستهدف عائلات ممتدّة لا تربطها أي صلة بالمقاومة ولا حتى بالأحزاب والسياسة عموماً، تكهّن الناس بأسباب كثيرة.
ووفقاً لمصادر إسرائيلية، فإنه في صبيحة الثامن من تشرين الأول، كان جيش الاحتلال يمتلك بنك أهداف فقيراً جدّاً، محصوراً ببيوت عائلات القادة العسكريين والسياسيين في الفصائل الفاعلة من الصفوف الأول والثاني والثالث أحياناً، فيما كانت حاجة الجيش في حربٍ كهذه، تتجاوز ذلك بكثير، وهو ما عبّر عنه وزير الجيش آنذاك، يوآف غالانت، بقوله في تصريحه الشهير: «هؤلاء حيوانات بشرية. سنصل إليهم واحداً واحداً». وبدأت مذّاك مضاعفة بنك الأهداف على نحوٍ جنوني، تجاوز كل اعتبار إنساني أو أخلاقي.
ووفقاً لتحليلات غير رسمية كثُر تداولها، قبل أن يجري التحقّق منها بدقّة، فإنّ جيش الاحتلال صنع في غضون الأشهر الأولى للحرب بنك أهداف استعان فيه بالذكاء الاصطناعي والعمل المخابراتي البشري، يشتمل التالي:
1- اغتيال عوائل كل شهداء عملية «طوفان الأقصى».
2- تحليل المحتوى المصوّر الذي التقطته الكاميرات العشوائية للمواطنين ونُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، واغتيال عائلة كل شخص مدني أو عسكري شارك أو احتفل بعمليات الاختطاف.
3- تتبّع ومراقبة أي شريحة هاتف سُجّل حضورها داخل مستوطنات غلاف غزة أو على بعد بضع مئات الأمتار من شارع صلاح الدين، المحاذي للشريط الفاصل.
4- اغتيال كل العناصر الذين شاركوا وعادوا أحياء، وهم في وسط عائلاتهم، أو وسط المخيمات المكتظّة، أو مراكز الإيواء، أو في الأسواق العامة والمزدحمة، وحتى وهم على أسرّة العلاج داخل المستشفيات.
اليوم، وبعد سنتين من الإبادة الجماعية التي مارستها إسرائيل على مرأى من العالم، وتجاوزت القتل والتجويع إلى تعمّد التنكيل بالكرامة البشرية عبر النزوح وسياسات توزيع المساعدات في «مؤسسة غزة» الأميركية والحرمان من العلاج ومنع دخول الحاجات الأساسية مثل غاز الطهي وأدوات السباكة والمياه الصالحة للشرب، تتبدّى الأهداف الحقيقية الإسرائيلية والطموحات اليمينية، في تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للحياة، وصناعة واقع معيشي عصيّ على الإصلاح والبناء لسنوات طويلة، وصولاً إلى نقطة تصبح فيها الهجرة من القطاع طموحاً شخصياً وجمعياً للسكان. غير أنّ ذلك المخطّط وإن تحقّقت ظروفه على الأرض، فإنّ مدى القبول الجمعي به في الشارع الغزّي يبقى الفيصل في تحقّقه، كما أنّ العجز عن العثور على دول مستعدّة للمساهمة في جريمة كهذه، يحول دون تحقيق الاحتلال هدفه.