تجلّت ملامح المعاناة والصدمة بوضوح في روايات الصحافيين الفلسطينيين المحرّرين، الأسبوع الماضي، ضمن صفقة تبادل الأسرى بين الاحتلال الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية، التي أُبرمت وفق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
الكلمات لم تسعف هؤلاء الصحافيين للتعبير عن هول التجربة القاسية التي مرّوا بها خلال فترة اعتقالهم المروّعة، منذ اللحظة الأولى للاعتقال، مرورًا بمراحل التعذيب الجسدي والنفسي، وصولًا إلى لحظة التحرّر التي حملت صدمة جديدة جراء مشاهد الدمار والقتل والفقدان التي غطّت كل تفاصيل الحياة في قطاع غزة. ويقول مسؤولون محليون إنّ الاحتلال يعتقل نحو 40 صحافيًا وعاملًا في وسائل الإعلام، وقد أفرج خلال عمليات التبادل الثلاث السابقة عن نحو 15 منهم فقط، بينما لا يزال بعضهم مجهول المصير حتى اليوم.
يا هلا بالصحافة
الصحافي شادي أبو سيدو (35 عامًا)، مصوّر في فضائية فلسطين اليوم، يروي أنّ بداية حكايته مع الاعتقال كانت في الثامن عشر من مارس/آذار 2024، عندما اعتقله الاحتلال وهو على رأس عمله أثناء تغطيته الميدانية للأحداث وتصويره معاناة النازحين داخل مجمع الشفاء الطبي، يقول أبو سيدو لـ"العربي الجديد" إنه فوجئ بدخول الآليات العسكرية الإسرائيلية إلى مجمع الشفاء وارتكاب المجازر بحقّ المدنيين العزّل، إلى جانب مناداة الجنود على كل من في المجمع بالخروج وتسليم نفسه.
يتابع: خرجت مع بقية الناس لإيقاننا بأننا مدنيون ولا علاقة لنا بالأحداث الدائرة بأي شكل من الأشكال. لم يخطر في بالي أنني سأُعتقل، لكنني صُدمت حين سألني جنود الاحتلال عن اسمي وعملي، وبعدما عرف الضابط أنّني صحافي، قال لي بسخرية: "يا هلا بالصحافة"، ثم أمر الجنود بتجريدي من الملابس. خلعت ملابسي رغم البرد الشديد حينها، فقيّدوا يدي وأجلسوني تحت المطر، وانهالوا عليّ بالضرب والتعذيب لأكثر من عشر ساعات متواصلة.
من التشريفة إلى سدي تيمان
في اليوم التالي، جرى تحويل أبو سيدو إلى معتقل سدي تيمان، ليبدأ الفصل الأقسى والأصعب في حياته. فقد تعرّض للضرب والشتم حتى في الطريق إلى المعتقل، فيما يعرف بين جنود الاحتلال بمصطلح "التشريفة". فور وصوله إلى مركز الاعتقال، جرى تقييد يديه بالسلاسل، وتعصيب عينيه، وإجباره على الجلوس على ركبتيه من دون السماح له حتى بتحريك شفتيه.
يقول أبو سيدو إنه مكث في هذا المركز سيّئ السمعة، الذي يضمّ مختلف أشكال التعذيب الذي لا يتخيّله عقل، أكثر من مئة يوم، قبل أن يُحوّل إلى سجن عوفر العسكري، حيث قضى هناك أكثر من 11 شهرًا. ويضيف: ذقت في المعتقل الثاني كل أشكال التعذيب، ولم يختلف عن المعتقل الأول سوى إزالة العصبة عن عينَي. كنت مقيّدًا بالسلاسل طوال فترة اعتقالي، أتناول الطعام وأنام وأذهب إلى الحمّام لدقيقتَين فقط في اليوم وأنا مكبل اليدين. غطّت آثار التعذيب جسدي كلّه، ولم تكن وجباتنا سوى قطعتَين من خبز (ليخم) متعفّن في كل وجبة.
الديسكو والتعذيب النفسي
إلى جانب التعذيب الجسدي، خضع أبو سيدو لتعذيب نفسي ممنهج. يقول إنّ المحققين داخل غرفة التحقيق المعروفة باسم الديسكو كانوا يخبرونه بأنهم قتلوا كلّ زملائه الصحافيين وأطفاله وأهله، وهددوه باقتلاع عينه التي كان يصوّر بها، كما حطّموا كاميرته التي تركها خلفه داخل مجمع الشفاء الطبي.
يضيف بأسى: قضيت في السجون 20 شهرًا من التعذيب والقهر والمعاناة والإهانة والتجويع، من دون أن أعرف تفاصيل الأحداث الجارية من حولنا، حتى أننا لم نكن نعلم شيئًا عن الصفقة التي خرجنا بموجبها. ويتابع أن دموع الفرح التي سالت لحظة الإفراج عنه ووصوله إلى مستشفى ناصر الطبي، تحوّلت إلى دموع قهر بعدما شاهد حجم الدمار الهائل، ورأى أسرته التي لطالما أخبره ضابط المخابرات أنهم قتلوها.
رحلة عبد الحميد حمدونة
من جهته، يروي الصحافي عبد الحميد حمدونة تفاصيل اعتقاله المروّعة بتاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، خلال رحلة نزوحه القسرية من مخيّم جباليا إلى المحافظات الجنوبية برفقة أسرته وأقاربه، بعد اشتداد ضراوة الحرب والقصف والأحزمة النارية والتهديدات الإسرائيلية بضرورة إخلاء المدينة.
يوضح حمدونة أنه كان يسير مع أسرته حاملًا أمتعته الشخصية وأطفاله باتجاه حاجز نتساريم الفاصل بين مدينة غزة والمحافظة الوسطى، حين ناداه جنود الاحتلال لتسليم نفسه، يقول: اضطررت لترك طفلتي التي كنت أحملها مع زوجتي، وتوجّهت خلف الجبل حيث تتمركز الآليات العسكرية وجنود الاحتلال، وهناك بدأ فصل قاسٍ من المعاناة والقهر والتعذيب.
يشير حمدونة إلى أنه لم يتصوّر المشاهد التي رآها لحظة اقترابه من الغرفة المتنقلة المعروفة باسم الحلّابة، وحالة الاكتظاظ الشديدة والبرد القارس والوحل الذي يغطي الأرض الطينية، يقول: "نادوا اسمي، فاتجهت نحو قوات الاحتلال بعد تهديدهم لي بالقتل إن لم أتجاوب، لأُفاجأ بالتنكيل والتعامل المهين وغير الآدمي".
يوضح أنه أُجبر تحت تهديد السلاح على خلع ملابسه رغم البرودة الشديدة، ثم ارتدائها مجددًا، قبل أن يجمعه الجنود مع بقية الموقوفين بجانب جدار لتفتيشهم بعنف ومصادرة ممتلكاتهم. ويضيف: وثّقوا يديّ بكلبشات صفراء كانت تحكم قبضتها كلما حركت يدي، ثم دفعونا وركلونا بعنف وسط ضرب وشتائم وصفع.
تهم باطلة
يبيّن حمدونة أنّ المعاملة غير الإنسانية بدأت منذ اللحظات الأولى للاعتقال، إذ وجّه إليه الجنود تهمة التعامل مع (جهات معادية)، وهو ما نفاه قائلًا لهم إنّه مواطن مدني لا ينتمي سوى لبيته وعمله. لكنّ ذلك لم يزد الجنود إلّا عنفًا وتنكيلًا، يقول: "الصفعات القوية والمتتالية على وجهي أثّرت على قدرتي على السمع. كانوا يعصبون أعيننا، لكنّنا كنا نشمّ رائحة الدم والجثث في كل مكان ونسمع إطلاق النار المتواصل، فظننا أنهم سيعدموننا".
يضيف أنّ الاحتلال نقلهم بطريقة مهينة إلى "البركسات" عبر شاحنة صغيرة تُعرف باسم العاقِلة، بعد فترة جلوس قاسية على الأرض، ثم إلى باص حيث ضُربت رؤوسهم بجدرانه وتعرّضوا لتفتيش ثانٍ.
لم يتمكّن حمدونة من التعبير عن حجم المعاناة التي عاشها طوال 23 شهرًا من الاعتقال، حُرم خلالها من أبسط الحقوق الإنسانية في الطعام والشراب والنظافة. ويقول: كنا نُمنع من دخول الحمام أو الاغتسال، ولم يتوقف الضرب والإهانة والسبّ لأهلنا وزوجاتنا وأمهاتنا. تنقلنا خلال تلك الشهور بين سجون وأقسام عدة ذقنا فيها كل تفاصيل العذاب.
يضيف أن ضباط المخابرات خلال التحقيق كانوا يوجهون له تهم "التحريض والكذب" عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنه كان يردّ عليهم قائلًا إنّه لا ينقل سوى معاناة الناس بمصداقية وشفافية، دون زيادة أو إنقاص.
مع ذلك، تمادى المحققون في التنكيل به جسديًا ونفسيًا، يقول: "لم أرَ وجهي في المرآة طوال فترة السجن. شاهدت وجهي لأول مرة في مرآة الحافلة التي أقلّتنا إلى خارج السجن. لم نصدق أنّنا سنخرج من هذا الجحيم، لكن الاحتلال راوغ حتى اللحظة الأخيرة، فنقلنا من السجون والزنازين العفنة إلى سجن أفضل بعد علمه بوصول طواقم الصليب الأحمر، حفاظًا على روايته الكاذبة التي لا يتوقف عن ترديدها.