اوراق خاصة

"ثورة تشرين" في لبنان.. هل كانت حراكًا أم انتفاضة شعبية .. أم فرصًا للتمويه؟

post-img

د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام

بعد مضي خمس سنوات على 17 تشرين، ومهما تعدّدت التسميات التي تراوحت بين "ثورة" و"انتفاضة" و"حراك" و"مؤامرة" وغيرها ... يسعى هذا المقال لإعادة قراءة هذا المشهد اللبناني بعيون ناقدة، طارحًا أسئلة وإشكاليات متعدّدة، ليس أوّلها كيف تحوّل الغضب الشعبي إلى مشاريع مموّلة؟ وليس آخرها كيف جرى استثمار الشعارات الجاذبة لتطويع الوجع الشعبي؟ منطلقًا من تحليل يجمع بين المشهد الميداني وأبعاد التمويل الخارجي الاجتماعية والسياسية، وعلاقتهم بما يُسمّى "منظّمات المجتمع المدني".

  • شرارة الحلم

في خريف العام 2019، وفي لحظة خانقة، علت الهتافات في ساحة الشهداء في بيروت وساحة النور في طرابلس وساحات أخرى في صور والنبطية.. هتافات تهزّ الأرض، وأغنيات تُغنّى بلهجاتٍ متعدّدة، وجموعٌ تلتقي على مطلب تحقيق العدالة في وطن يحتضن أبنائه كلهم.. في تلك اللحظات، تهافتت وسائل الإعلام اللبنانية والعربية والعالمية إلى نقل مباشر لنبض الشارع الموجوع والثائر والمنتفض. وعمل بعضها على تظهير صورة برّاقة تُوحي بأنّ لبنان بدأ يستعسد أنفاسه من تحت ركام الطائفية والزبائنية السياسية والوساطة والمحسوبية.

توليفة امتزجت مع ارتفاع الأعلام اللبنانية بلا رايات حزبية، مرفرفة تحت أنين الموجوعين وصرخاتهم على أرض وطن بهويّات متآلفة حينًا ومتنافرة أحيانًا... وسط شعارات يحملونها بأيديهم المتعبة، ويهتفون ضد من طحن أحلامهم لعقود وعقود.

مشاهد وهتافات هزّت كيان الوطن كما المواطنين، ولوهلة، بدا أنّ بعض اللبنانيين حاولوا أن يكتبوا  فصلًا جديدًا من تاريخهم خارج القيد الطائفي. لكن شيئًا ما تغيّر حين بدأ سؤال يلوح في الأفق: كيف نستمر؟ كيف نُنظّم هذا الزخم؟

من هنا بدأ التحوّل.

في تلك اللحظة، دخلت المنظمات غير الحكومية إلى المشهد، منظّمات  تحمل خبرتها في الإدارة، وتمويلها القادم من الخارج، وأجنداتها الجاهزة للتطبيق. وعلى الرغم من هذه المقدّمات كلها، لم يتغير المشهد.. إذ بعد انقضاء السنوات، خفتت الهتافات، وخلت الساحات ليحلّ محلّها صمت ثقيل، وتحوّلت الكلمات التي كانت تشتعل في الساحات إلى واقع جديد. واقع دفعنا لطرح ألف سؤال وسؤال ضمن مظلة حُبلى بالهواجس المحمّلة بالأسئلة: ماذا حدث؟ وكيف ولماذا عدنا من الشوارع إلى المكاتب؟ وكيف تحوّلت الصرخات الجماعية إلى مشاريع مموّلة؟ وكيف انتقلنا من هالة الثورة إلى الورش التدريبية؟ ومن احتكر صوت الناس وأوجاعهم باسم "المجتمع المدني"؟

  • من العفوية إلى الإدارة

لم يكن حراك 17 تشرين الأوّل في لبنان مجرّد حدثٍ عابر، بل مرآة كشفت عمق التناقضات في قلب الأرقام وورائها. وبحسب تقرير مؤسسة فريدريش ناومان (FNF) في العام 2021، يضمّ لبنان اليوم آلاف الجمعيات، نحو خمسة آلاف مسجّلة، منها سبعمئة فقط ناشطة بانتظام، ما يعكس حجم التفاوت بين الكمّ والفعالية، وبين الاستقلال والارتهان.

لم يترك هذا التقرير مجالًا للالتباس، نحن أمام منظّمات وجمعيات تعتمد في معظمها على تمويل خارجي يعوّض غياب أي دعم حكوميّ حقيقي. وفي هذا الإطار، يذكر التقرير أنّ: "اللاعبين الدوليين غالبًا ما يقدّمون تمويلًا لهذه المنظمات بشرط تبنّي سياسات ورؤى منسجمة مع أجنداتهم السياسية"، ومن هنا يبدأ الخيط الأول في الحكاية: فالتمويل ليس مجرّد دعم، هو أداة تأثير.

في المقابل، لم تكن الأحزاب التقليدية بعيدة عن هذا المشهد، إذ تسلّلت إلى بعض الجمعيات لتُعيد توظيف الزخم المدني في لعبة تلميع صورتها أو احتواء الشارع. أمّا النتيجة التي يرسمها التقرير بوضوح فقد أسفرت عن ضبابية في التمثيل وتفتّت في المبادرة، وتجلّت من خلالها ملامح مشهدٍ مدنيٍّ لبنانيٍّ محكومٍ أكثر ممّا هو حرّ.

هذا؛ وفيما يطلّ المشهد المدني في لبنان كما لو أنه يقف على مفترق طرقٍ بين الحلم والدعم المشروط. يكشف التقرير أنّ: "منظمات المجتمع المدني في لبنان تضمّ فروعًا لجمعيات دولية"، ما يعني أنّ جزءًا من الخطاب المدني لم يعد محليًا تمامًا، لقد أصبح يتغذّى من شبكات عابرة للحدود. هذه الشواهد ليست مجرّد أرقام، هي مؤشّر على سؤالٍ أعمق: حين يصبح الدعم مشروطًا والسياسات مملاة، من الذي يتحدث باسم الشارع؟ ومن يملك القرار؟ وهكذا يتحوّل التمويل إلى بوابةٍ رمادية بين النية الطيّبة للتنمية، ومخاطر الهيمنة التي تعيد تشكيل الفعل المدني من الداخل.

في ما يشبه الاعتراف الجماعي، يكشف تقرير LCPS  أنّ ما بدأ حراكًا شعبيًّا عفويٍّا في ساحات لبنان، انتهى إلى مشهدٍ أكثر تعقيدًا، كلماتٌ صريحة تكشف الوجه الخفيّ للعلاقة بين المجتمع المدني والمموّل الدولي. كما تكشف عن مفارقة عميقة تطرح إشكالية أساسية، فكم من هذه الجمعيات ما يزال يحمل صوت الناس؟، وكم منها صار يُدار من خلف مكاتب أنيقة في بيروت أو برلين؟

تاليًا، التمويل لم يكن مجرّد دعمٍ لوجستي، أصبح أداة لإعادة هندسة المشهد المدني. ولذلك تطرح وقائع التقرير سؤالًا حادًّا: حين تُموَّل الحركة وتُدار من خارجها وداخلها في آنٍ، من يبقى ليعبّر حقًا عن الناس؟ الشارع أم المموِّل؟ وهنا، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل ما يزال الشارع يملك صوته الحرّ؟ أم صار يُتلى من خلف ميزانياتٍ وخططٍ مموّلة بعناية؟

  • المموّلون إلى الساحات

في الأشهر التي تلت تشرين الأوّل، من العام 2010، بدأت اللغة المستخدمة تتغيّر. وبدت آثار هذه التحوّلات جليّة، فبعد أن كُتبت الهتافات بعرق الناس في الساحات… أضحت تُطبع على أوراق تحمل شعار المانحين. ومن "إسقاط النظام الطائفي" إلى "بناء القدرات" و"الحوكمة الرشيدة". وشارك الناشطون الذين كانوا يهتفون في الساحات ضمن ورش تدريبٍ عن "التمكين" وورش "تدريب على القيادة"، وأصبح الشعار الذي كان يُعبّر عن الغضب عنوانًا لتقرير تمويلي، وتحوّلت المنصّات الثورية التي كانت تُهاجم النظام إلى "مشاريع توعية مدعومة"، تخضع لرقابة المموّل وشروطه، وتحوّلت الشعارات لتتحدّث عن "التمكين"، و" الحوكمة"، و" الشفافية"، بدلًا من "إسقاط النظام الطائفي".

هكذا، تراجعت القضايا الكبرى (العدالة الاجتماعية، وإصلاح النظام الاقتصادي، ومواجهة الطائفية) لتحلّ مكانها ملفات "قابلة للتمويل"، تطرح قضايا "الجندر" و"تمكين الشباب" وغيرها من القضايا النبيلة، ولكنّها أفرغت من شحنتها السياسية، وغدت جزءًا من قاموس ناعم، لا يزعج أحدًا. وغدت الاحترافية غطاءًا جديدًا للانضباط السياسي، وأصبح المشروع هو الثورة الجديدة.

في هذا السياق، يشرح الباحث ميشال ميتري هذا التحوّل عبر مصطلح "الأنْجَزَة"، إذ: "حين تدخل لغة التمويل إلى الحراك، يتحوّل الغضب إلى مؤشّرات، والثورة إلى خطّة عمل". وتُقاس الحماسة بعدد المستفيدين، كما تُستبدل الاحتجاجات ببرامج "توعية". وهكذا ًاعيد صياغة الحلم الجماعي ليصبح أكثر انضباطًا… وأكثر قابلية للقياس.

  • لعبة الهيمنة والاحتواء والانقسام: بين مطرقة التمويل وسندان القمع

لم يكن التمويل الأجنبي وحده من أعاد رسم المشهد، مع أنّ هذا التمويل لم يكن مجرّد دعم، بل أداة لإعادة هندسة الفعل المدني وتوجيهه نحو قضايا قابلة للتمويل، أكثر من كونها قضايا سياسية صدامية. ويمكن القول إنّ التمويل الأجنبي لم يخترع الوجع، لكنه أعاد تشكيله في قوالب تضمن ألّا يخرج عن السيطرة.

وما بدا في ظاهره دعمًا للمجتمع المدني، أخفى في باطنه لعبة نفوذٍ دولية معقّدة؛ فكثير من الجمعيات المحلّية تحوّلت إلى امتدادٍ لأجنداتٍ خارجية تُموّل تحت عناوين إنسانية أو نسوية أو تنموية. واستخدمت شعارات نبيلة لتطويع الغضب الشعبي وتحويله إلى طاقة آمنة يمكن إدارتها ضمن برامج محسوبة، فبدل أن تبقى صرخة الناس تهزّ المنظومة، صارت تُدار من وراء الشاشات والملفّات المموّلة.

بذلك جرى تسويق مشاريع تبدو إنسانية تحت لافتات حقوقية براقة، لكنها تُعيد في العمق إنتاج التبعية السياسية والاقتصادية.. فمن تمكين النساء إلى دعم الشباب، تختفي خطوط دقيقة تفصل بين الدعم الحقيقي والاستغلال المبطّن لصرخات الناس. وبذلك استثمر الوجع، وأديرت الكرامة بمنطق التمويل.

مع مرور الوقت، ووفقًا لدراسة أكاديمية، تآكلت الوحدة الأولى للحراك، واستثمرت الاختلافات الأيديولوجية، والانقسام في التمويل وفقدان القيادة الموحّدة، للدفع بما سمي "ثورة" إلى داخل المكاتب المغلقة، حيث يُدار النقاش لا من الميدان، بل من أمام شاشات العرض.

  • حين يُصادرك الآخرون

يُظهر تقرير Lebanon Support عن المجتمع المدني في لبنان بوضوح تحوّل المنظمات الكبرى إلى صوتٍ رسمي يتحدّث باسم الناس. إن في المؤتمرات الدولية أو في التقارير الأممية، تحدّثت عن الفقر والفساد والهجرة، لكنها نادرًا ما تعود إلى الساحات التي انطلقت منها. لقد باتت تفصلها عن الناس، طبقة لغوية من المصطلحات البرّاقة، "التنمية المستدامة"، و"التغيير البنيوي" و"المساءلة المجتمعية".

هناك أدبيات محكّمة، تُظهر كيف تسلّل منطق المشاريع والمانحين إلى لغة الحراك نفسه، محوِّلًا شيئًا من عفويته إلى إدارة منظّمة مشروطة بالتمويل والشراكات الدولية. والخطورة هنا ليست في وجود الدعم، بل في احتكاره. فحين يصبح التمويل الخارجي القناة الوحيدة الممكنة، يفقد الفعل المدني حريته ويصبح إبنًا للنظام نفسه الذي خرج ليعارضه.

  • سحر البساطة وخطر التعميم بين الشمول والمحاباة

في عمق النقد، يرى كثيرون أن الشعار المروّج له لم يكن بريئًا تمامًا. فبينما رفعه الجميع، استخدمه بعضهم سلاحًا موجّهًا ضد خصومٍ محدّدين لا ضد الجميع.. فـ "كلّن"صارت أحيانًا "هُم"، لا "نحن". والمطالب التي خرجت من الساحات لم تُترجم على نحو متوازن في الخطاب الإعلامي والسياسي؛ لقد وجّهت نحو محور دون آخر، وكأنّ الفساد لون سياسي واحد.

بهذا المعنى، لم يعد الشعار مرادفًا للعدالة، بل صار رمزًا لتصفية الحسابات في بلدٍ يُتقن لعبة "الانتقاء". إنه شعارٌ فقد صفاءه حين صار الجميع يردّده… لأسبابٍ مختلفة. ومع أنه هتافٌ بسيط وعادل في ظاهره، فإنّ الشعار الذي روّج له ("كلّن يعني كلّن) حمل في طيّاته خطر التعميم الذي أراح المنظومة بدل أن يُحرجها. إذ حين يُتَّهَم الجميع، يتبخّر الفارق بين الجاني والمجني عليه، وتضيع المسؤولية في زحمة الاتهام الشامل.

لذلك، أفادت بعض القوى السياسية من هذا التعميم، لتغسل أيديها بالقول: "نحن مثل غيرنا". وهكذا، تحوّل الشعار الذي وُلد ليحاسب إلى مظلّة تحمي الكلّ من المحاسبة.  صحيح أنّ الفكرة النبيلة لم تسقط، لكنّها تعرّت من فعاليتها تاركةً خلفها درسًا مؤلمًا، فالثورات لا تُختزل في شعارٍ مهما كان جميلًا، بل في القدرة على ترجمة الغضب إلى مساءلة دقيقة لا تترك أحدًا خارجها.

  • ما تبقّى من الصرخة

من الخطأ بمكان اختزال المشهد في رواية المؤامرة وحدها. إذ إنّ كثيرًا من الشبان الشابات الذين انخرطوا في المنظّمات فعلوا ذلك بنيّةٍ صادقة، مؤمنين بأنّ العمل المدني طريق بديل حين تُغلق أبواب السياسة. غير أنّ البنية التمويلية نفسها أعادت تعريف الأولويات، فبدلًا من مواجهة البنى الطائفية أو إصلاح النظام الاقتصادي، انشغلت المنظّمات في قضايا تقنية، مثل التدريب والمشاركة والمساواة الجندرية وبناء القدرات… وهي كلها قضايا نبيلة، لكنها جزئية، تخلو من روح الصدام التي شكّلت جوهر الحراك.

كما يكشف باحثون كيف باتت"الاحترافية" غطاءً جديدًا للانضباط السياسي، وصار الناشط موظفًا والمشروع هو الثورة الجديدة. وبذلك لا يفرض التمويل فقط جدول أعمال، أيضا يخلق ثقافة: ثقافة الانضباط، والخوف من خسارة المنحة والابتعاد عن المواقف الراديكالية. وبذلك، يخفت صوت السياسة تحت وطأة التقارير والميزانيات، ويتحوّل الشغف الثوري إلى جداول وخطط تنفيذ.. فنغدو أمام تحوّل هادئ، من صرخةٍ جماعيةٍ إلى مشروعٍ تنمويٍّ يبدو أنيقًا… أقلّ ضجيجًا، وأقلّ حرية.

  • لحظة انكشاف

إذا ما أردنا أن نضع كل ما حدث في لبنان، من الشرارة الأولى في تشرين 2019 حتى اليوم، في كلمة واحدة، نقول: لحظة انكشاف. فنحن لا نعيش "ثورة فشلت" فقط، ولا "مؤامرة تمويل"، ولا  عن احتواء "انتفاضة شعبية ".. نحن نعيش لحظة انكشاف شامل: للناس وللسلطة وللوهم.

  • انكشاف الناس أمام أنفسهم

عرّت "تشرين" اللبنانيين أمام ذواتهم.. فجأة رأى الناس أنّهم قادرون أن يكونوا "نحن"عابرة للطوائف، وذُهلوا من هذا الاكتشاف. ثمّ، بالسرعة نفسها، رأوا كم هو سهل أن تنكسر هذه الــــ"نحن" عند أول انعطافة. وبذلك،اكتشفنا لحظة القوة، واكتشفنا لحظة الهشاشة.. الاثنتان معًا.. ما شكّل صدمة وجودية، فليس سهلًا أن تعرف أنّ الوحدة ممكنة… لكنها ليست مضمونة.

  • انكشاف "المجتمع المدني"

قبل "تشرين"، المجتمع المدني كان يعيش في الخيال العام كمساحة طاهرة بديلة عن الطبقة السياسية. بعد "تشرين"، صار يُسأل: من يمولك؟ من تُمثّل؟ مع من تتكلم؟ هذا التحوّل خطير وجميل في آن. خطير لأنه كشف تواطؤًا وتمويلًا مشروطًا وتسخيرًا للألم في خدمة أجندات دولية مغلّفة بخطاب حقوقي وإنساني ونسوي. وجميل لأنه أزال القداسة...يعني باختصار: سقط قناع “المنظمة المُخلِّصة” تمامًا كما سقط قناع “الزعيم المُخلِّص”.

  • انكشاف المعنى

نعتقده الانكشاف الأعمق، فقد كان "تشرين" لحظة انتقال من العاطفة الخام "خلص! كرامتنا قبل خبزنا"، إلى سؤال أصعب بكثير: ماذا بعد؟ من ينظّم؟ ومن يفاوض؟ ومن يمثّل؟ ومن يحكم؟ وتاليًا من يتحمّل المسؤولية أمام الناس؟

 هذا الانتقال لم ينجح. وكونه لم ينجح فضح شيئًا موجعًا، ليس لدينا بعد، في لبنان، أداة سياسية شعبية قادرة أن تتحوّل من غضب إلى سلطة بديلة. عندنا غضب صادق، نعم. وعندنا أيضًا وجع حقيقي، نعم. عندنا وعي هائل، نعم. لكنّنا لمّا نتّفق بعد على الجسم السياسي القادر أن يحكم باسم هذا الوجع.

لكن، لماذا نرى أنّنا غدونا أمام "لحظة انكشاف"؟

الإجابة ببساطة؛ لأنّ "تشرين" لم تُنقذ البلد، لكنّها منعته من أن يكذب على نفسه كما كان يفعل قبلها. قبل "تشرين"، كان يمكن لكل طرف أن يبيع روايته للناس ويصدّقوها أو يتظاهروا بتصديقها. وبعد "تشرين"، صار من الصعب جدًّا أن تبيع الوهم صافيًا.. فالمنظمات مكشوفة والشارع مكشوف، وحتى اللغة نفسها مكشوفة. وعلى الرغم من هذا كلّه، لسنا أمام الهزيمة مطلقًا. إنّما، هذا يعني أننا خرجنا من الطفولة السياسية. إذ انتهى زمن "نحنا ضحايا وما فينا نعمل شي"، وبدأ زمن "نحنا شركاء في كل ما يجري، ونعرف تمامًا كيف تُدار اللعبة علينا".

هذا الوعي، حتى لو بدا حزينًا، هو أخطر شيء على أي منظومة؛ لأنّه أوّل خطوة باتجاه بناء شيء جديد لا يقوم على الأسطورة، ولا على الأوهام التي يُتخيّل بأنّها ستخلّص الجميع، ولا على منظّمات المجتمع المدني التي تُصادر الكلام باسم الجميع، وأيضًا لا يقوم على المعجزة. فالوجع لا يحتاج إلى وصاية، والشعارات مهما بدت برّاقة قد تستعمل لتسويق مشاريع تخدم من يموّلها لا من يعيشها. لقد حان الوقت لإعادة تعريف المجتمع المدني على أنه فضاء وطني مستقل، لا ذراعًا للمانحين.

ما عشناه منذ تشرين الأوّل، من العام 2019، حتى اليوم، هو الانتقال من الأسطورة إلى الوعي. رهاننا هو على هذا الوعي الذي بات اليوم أعمق. إذ ليست الشعارات كلها بريئة، ولا المنظّمات كلها مستقلّة. علينا إذًا أن نميّز بين من يرفع الصوت حقًا، ومن يستخدم الوجع الشعبي ليمرّر أجندات تمويلية تتزيّن بالخطاب الإنسانس والحقوقي.. فالثورة لا تُقاس بعدد اللافتات ولا بالورش، بل بقدرتها على أن تبقى ملكًا للناس، لا أن تدار باسمهم من الخارج.

واقع وأحداث ودروس وعبر تفرض أن نتحصّن بوعي جديد، يُدرك أنّ الكلمة الحرّة لا تموّل، وأنّ الكرامة لا تُدار كما يدار المشروع.. وأنّ الوعي، حتى ولو ترافق مع وجع وألم، هو بداية خوض غمار السياسة الحقيقية.

  • المصادر والمراجع
  • Mitri, D. (2015). From public space to office space: The professionalization/NGO of the feminist movement associations in Lebanon and its impact on mobilization and achieving social change. In M.-N. Abi Yaghi, B. Chit, & L. Yammine (Eds.), Revisiting Inequalities in Lebanon (Civil Society Review, Issue 1). Beirut: Lebanon Support.
  • International Alert. (2020, March). Lebanon protests and prospects for peacebuilding
  • Amnesty International. (2020, October 17). Lebanon: One year after the October protest movement, impunity.
  • Ghaddar, H., Rabah, M., Slim, L., & Tawile, J. (2019, November 8). The Lebanon Protests: Views from Beirut and Policy Implications. The Washington Institute.
  • AbiYaghi, M.-N., & Yammine, L. (2020). The October 2019 Protests in Lebanon: Between Contention and Reproduction. Beirut: Lebanon Support.
  • Dahrouge, E., Nammour, J., Lotf, A. S., & Arma Program Students. (2020). The 17 October 2019 protests in Lebanon: Perceptions of Lebanese and non-Lebanese residents of Tripoli. Global Campus Human Rights Journal, 4(2).
  • Yammine, M. N. A. (2020/2021). The October 2019 Protests in Lebanon: Between Contention and Reproduction. Beirut: Civil Society Knowledge Centre / Lebanon Support.
  • Assi, A. (2021). Lebanon’s protest movements of 2015 and 2019: A comparative analysis. Friedrich Naumann Foundation for Freedom.
  • Frisk, N. (2022). “We have other objectives to prioritise”: A study of the depoliticisation of foreign-funded NGOs and its impact on the Lebanese anti-establishment movement (Master’s thesis, Lund University).
  • El Khoury, M. (2023). Stabilizing democracies in the European neighborhood: Lessons from Lebanon and Tunisia. Friedrich Naumann Foundation for Freedom & Democracy Reporting International.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد