إسراء الفاس/ موقع العهد الإلكتروني
- “لنذهب أولًا إلى السلام مع "إسرائيل"، وبعدها لإعادة بناء لبنان".
- “ إن صنع السلام مع "إسرائيل" سيكشف أن الحروب على مدى 50 عامًا لم تكن إلا هباءً.
- “كلبنانية شيعية من الجنوب، أكره "إسرائيل" بكلّ وجودي.. أريد أن أعيش بسلام، وإذا كان التطبيع مع "إسرائيل" هو الخيار الوحيد، فليكن".
هذه عينة من مواد تُنشر يوميًا على منصة "Reddit". منذ إعلان وقف إطلاق النار بين كيان العدوّ ولبنان في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بدأت تخرج هكذا منشورات، وبشكل يومي، على المنصة التي يدور التفاعل فيها وفقًا للعناوين التي تتشكّل على أساسها المجموعات، وعليها يتم استقطاب الجمهور. عناوين مثل: لبنان، أو الصداقة المحرّمة (بين لبنان و"إسرائيل").
مؤخرًا ومع تصاعد الحديث عن الضغوط الأميركية لجر لبنان إلى التفاوض المباشر مع العدو، تكثّفت المنشورات التي تتناول المضمون نفسه. واللبناني المتابع لما يُنشر يُخيّل إليه أنه أمام لبنان آخر: اللكنة نفسها، التعابير ذاتها، إلا أن المواقف هي النقيض تمامًا. ثمة من يسرق وجوه اللبنانيين هناك، لتقديم سردية لا تشبههم، تختطف حقوقهم، وتبرر قتلهم.
في مجموعة تحمل اسم "الصداقة المحرّمة"، نشر أحدهم رسمًا يظهر امرأة بحجاب أصفر وعليه شعار حزب الله، تعلو وجهها ابتسامة عريضة، وكُتب تحت الرسم: لا يوجد حزب في جنوب لبنان. سأل صاحب المنشور: "أقرأ أخبار عن قصف "إسرائيلي" يطال الجنوب، هل السكان هناك لا يزالون يخشون الخروج ضدّ حزب الله؟ هل القصف يستهدف مدنيين؟ أود سماع تعليقات اللبنانيين". فأتاه الرد باسم أحد اللبنانيين: "غالبية الشيعة يدعمون الحزب أيديولوجيًا وعمليًا، جعلهم الحزب يعتقدون أن وجودهم السياسي لا يتحقق من دونه. ثمة أصوات قليلة شجاعة تشذ عن القاعدة، وهي تتعرض للنبذ والتهديد من عوائلها. المشكلة الرئيسية تكمن في المدى الذي بلغه غسيل الأدمغة… القتلى الذين تقصفهم "إسرائيل"، يُعلن عن استهدافهم أولًا كمدنيين (طلاب، رجال أعمال، مهندسين…)، ولكن بعد يوم أو يومين تظهر صورهم وأسمائهم على ملصقات الحزب: شهداء على طريق القدس. هذا هراء!"
هكذا تحضر السردية "الإسرائيلية" من ألفها إلى يائها على "Reddit". وكيف يمكن للأجنبي التحقق من مصداقية المنشور، أو التثبت من أن الناشر لبناني حقًا؟ هذا ليس ممكنًا. فالمنصة لا تظهر فيها أسماء علنية، وهي تعتبر واحدة من أهم المنصات الداعمة لتجهيل الهوية على الانترنت. لا وجود فيها لمؤثرين، وما يقارب نصف روّادها هم من الأميركيين (48.69%)، والنصف الآخر من دول غربية بالدرجة الأولى (بريطانيا، وكندا وألمانيا…). إذًا نحن نتحدث عن جمهور يقع اليوم في دائرة الاهتمام "الإسرائيلي" المباشر.
قبل شهر تحديدًا، خرجت صورة رئيس حكومة كيان الاحتلال والإبادة يخطب أمام قاعة فارغة في الجمعية العامة الأمم المتحدة. وكان المشهد يعبّر عن واقع العزلة الدولية التي تواجه "إسرائيل" عالميًا. على مدى عقود، اشتغلت الماكينة الصهيونية في الكيان وخارجه على توظيف "الهولوكوست" خدمة للاحتلال. في الدول الأوروبية تحديدًا ظلت رواية "المحرقة" مادة حاضرة في السينما والأدب والمناهج الدراسية حتّى، فكبّلت الوعي الجمعي للشعوب الأوروبية. وعليه تكرس التعاطف مع "اليهود" ككفارة عن نبذهم لهم، إذ إن النبذ لم يقتصر على سياسات النازيين. ونتيجة لذلك، بات التعاطي مع كلّ انتقاد لـ "إسرائيل" على أنه خدش للوجدان اليهودي الذي يجب مواجهته تحت تشريع مكافحة معاداة السامية. والتشريع الذي يسري في دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة، يجرّم "إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير" (أي رفض وجود "إسرائيل").
كلّ ما ثبتته السردية الصهيونية لعقود، نسفته الوحشية "الإسرائيلية"، عندما خرجت بالصورة والصوت، يتابعها العالم ببث مباشر. يوميًا على مدار عامين: محارق بالجملة، إبادات لعوائل كاملة، وأطفال يحملهم آباؤهم أشلاء مجمعة في أكياس بلاستيكية، وجثث مكدسة تميّزها أرقامها. لقد تمكّنت السردية الفلسطينية من سحب البساط من تحت عدوّها، فتسيّدت مشاهد شهدائها على الشاشات وأخرجت الشعوب الأوروبية إلى ساحات التظاهر، وفرضت حضور الرأي الآخر ولو بسقف في الإعلام، وفي كثير من الأحيان سقف في الساحات التي كانت ترفع العناوين. في مانشستر، إحدى أكبر المدن البريطانية، وقفت إحدى الناشطات تخطب في جمهور المحتشدين: 7 أكتوبر فعل مقاوم، والمقاومة تعني الوجود (Resistance is Existence). الموقف هذا كان يخرج من بلد يصنّف فصائل المقاومة بالإرهابية… هذا التحوّل أحدثته الإبادة، وجهود التوثيق والنشر.
قبل أقل من شهر كشف تقرير لمجلة "Responsible Statecraft" الأميركية، عن أن وزارة خارجية العدوّ موّلت عقدًا بقيمة 900 ألف دولار مع مجموعة Havas Media Group الألمانية، لتشغيل ما بين 14 و18 مؤثرًا بين حزيران/يونيو الماضي وتشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وبحسب التقرير، تصل قيمة المنشور الواحد إلى 7,300 دولار. وبالتزامن نشر "موقع ويكيليكس" أن نحو نصف قيمة العقد خُصص لتجنيد وتدريب مؤثرين أميركيين على إنتاج محتوى مؤيد للاحتلال.
في تقرير آخر للمجلة نفسها خصصته للحديث عن "مشروع 545" الذي يهدف العدوّ من خلاله للسيطرة على وسائل الإعلام الأميركية والمؤثرين وعلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وGrok، أوضحت أن المشروع سيستهدف شريحةً من الشعب الأميركي انفصلت بشكل حاد عن دعمها للكيان. واستعرضت نتائج استطلاعات للرأي توضح أن "9% فقط من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا يؤيدون العمل العسكري "الإسرائيلي" في غزّة"، وأن "47% من الأميركيين يعتقدون أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية". في الوقت نفسه، نقلت أن نتنياهو أجرى لقاء مع عدد من المؤثرين في أيلول/سبتمبر الماضي"، وقال لهم: "سيتعين علينا استخدام أدوات المعركة، فالأسلحة تتغير بمرور الوقت. لا يمكن القتال بالسيوف اليوم، فهذا لا يُجدي نفعًا... أهمها هي وسائل التواصل الاجتماعي".
يفسر كلّ هذا ما يجري التسويق له على "ريديت" وغيره من منصات. يدفع الصهاينة المال لشراء المؤثرين الأميركيين وبالتالي الجمهور، وتتغلغل أياديهم مباشرة إلى ضخ سرديتهم بسرقة عناوين واهتمامات اللبنانيين. ليس هذا وحسب، بل بتوظيف أصوات لبنانية تجهر بما يريد له نتنياهو أن يُقال في لبنان، لم يكن نديم قطيش ومروان حمادة أولهم ولن يكون آخرهم مكرم رباح، الذي كانت حسابات ناشطة على هذه المجموعات تسوّق مقال له بعنوان "لا حياء في السلام". يقول "لبناني" كمكرم رباح هذا، فتأخذه "إسرائيل" لتضعه أمام عيون جمهور أوروبي يرفضها اليوم… لتُخرسه.