وسام المقوسي/جريدة الأخبار
في الانتفاضة الفلسطينية الأولى «انتفاضة الحجارة»، كنت طفلًا صغيرًا أراقب العالم من خلف نافذة بيتنا الجميل بمدينة غزة. وكما كل يوم، رأيت الشباب الثائرين يشتبكون بالحجارة مع جنود الاحتلال، ويتنقلون بين أسطح البيوت، وأمي بجواري تتابعهم بعينين لا تعرفان الخوف، كأنها تقرأ في وجوههم ملامح النصر القادم.
فجأة، دوّى صوت الرصاص في كل مكان. رأيت أمي تركض من دون تردد، تتجاوز السور الإسمنتي الذي يفصل بيتنا عن بيت الجيران. كنت مندهشًا وخائفًا: أين ذهبت أمي؟ لماذا صعدت بهذه السرعة وتركتني؟ لا أحد كان يعرف، لكنها وحدها كانت تدرك ما يجب فعله!.
في فصل الحكاية، كان الشهيد خالد جاد الله، ذلك الشاب الثائر، يعتلي أحد الأسطح في حي الشيخ رضوان، يرجم المحتل بحجارته، يدافع عن شعبه ومقدساته. رصاصة غادرة اخترقت جسده، فسقط أرضًا، وانسابت دماؤه الطاهرة في جنبات البيت، بينما الجنود المدججون بالسلاح طوّقوا المكان ومنعوا سيارات الإسعاف من الوصول إليه.
في تلك اللحظة، كانت أمي تمثل فلسطين كلها: امرأة لا تحمل سلاحًا، ولم تكن تبحث عن المجد، بل صنعته بصمت. كانت تحمل قلبًا لا يعرف الهزيمة. ولعل أحدًا لا يعرف هذه القصة، حتى المقربين. لقد وقفت أمي في وجه الموت، واختارت أن تكون الحياة لمن حولها، حتى لو دفعت الثمن من دمها.
كانت تركض نحو الحياة، نحو الواجب الذي يتجاوز حدود الإمكان. لم تكن تهرب من الرصاص، بل كانت تتجه نحوه. ولم يكن في عقلها مساحة للتردد، رغم الخطر المحدق بها. كانت تعرف أنها في لحظة الامتحان الأعظم، حيث يُختبر الإنسان في معدنه، وتُقاس البطولة بالفعل لا بالشعارات.
وصلت أمي إلى الزقاق الضيق، ورفعت الشاب خالد بين ذراعيها وكان مضرجًا بالدماء. نظر إليها مبتسمًا وقال: «أختي أريد ماء، أنا صائم». صعدت أمي مرة أخرى على السور، أحضرت له الماء، وسقته من يدها. لحظات وبعدها ارتقى خالد شهيدًا، وفاضت روحه نحو بارئها، راضية مرضية.
مرت السنوات، وكلما جلسنا مع أمي، كانت تروي لنا تلك الملحمة بعينين دامعتين. كانت حزينة لأنها لم تستطع إنقاذه، لكنها كانت فخورة لأنها سقت الشهيد ماء، ولقنته الشهادتين، ورافقته في لحظاته الأخيرة، كأنها كانت تمهد لنفسها الطريق إلى الجنة.
أمي لم تكن تهتف في الساحات أو لديها سلاح، لكنها أنجبت وربّت من حملوه. امرأة جعلت من شربة الماء مقاومة وشهادة، وجسّدت عبرها مشهدًا فريدًا في تحدي المحتل. لم أكن أعلم، ولا أحد، أن تلك اليد التي سقت الشهيد خالد ماء، كانت تروي الأرض التي ستحتضنها يومًا ما.
كبرتُ أنا وإخوتي على وصاياها. كانت أمي تُعلّم بالصبر، والعزيمة، والثبات، وتقول دائمًا: «لن أترك بيتي، ولن أسافر، وسأحيا وأموت فيه، ولن أغادره إلا لزيارة بيت الله الحرام أو إلى السماء». كانت تربّي فينا الوطن، وتحمينا بالدعاء وكثرة الصلاة، وتدفعنا نحو المواجهة والارتقاء، إن كان ذلك في الدنيا أو الآخرة.
نطقت أمي كلمات لن أنساها ما حييت. قالت لوالدي: «لقد نذرت ابني الصغير، عبد العزيز، شهيدًا، تقربًا إلى الله، وفداءً للدين والوطن. إن رزقنا الله الشهادة له، فذلك فضلٌ عظيم، وإن أبقاه حيًا، فليكن من البارين بنا
النذر الصادق وتجليات الاصطفاء...
هذه القصة لم تكن الوحيدة بل يقص والدي فصلًا آخر من التضحية التي كانت تتحلى بها أمي، رحمها الله. ويقول لي: «دار بيني وبين أمك يومًا حوار ذو شجون، كنا نتحدث عن معنى الثبات، وكيف يمكن للإنسان أن ينال رضى الله في الدنيا والآخرة، وكيف تكون التضحية طريقًا إلى الجنة».
ويضيف: «في تلك الليلة، قلت لأمك: ألا تحبين أن تهبي أحد أبنائك الأربعة لوجه الله؟
فقالت: بلى، أحب.
فقلت: فليكن آخرهم، عبد العزيز.
فقالت: فليكن لوجه الله»
لقد نطقت أمي كلمات لن أنساها ما حييت. قالت لوالدي: «لقد نذرت ابني الصغير، عبد العزيز، شهيدًا، تقربًا إلى الله، وفداءً للدين والوطن. إن رزقنا الله الشهادة له، فذلك فضلٌ عظيم، وإن أبقاه حيًا، فليكن من البارين بنا، والصادقين الذين لا يبدّلون تبديلًا».
يقول والدي: «لم تكن كلماتها مجرد أمنية، بل كانت عهدًا، نذرًا صادقًا، نابعًا من يقينٍ بأن الجنة مهرها الدماء في سبيل الله، ونصرةً لدينه ومقدساته. كانت كلماتها تخرج من قلبٍ مؤمن، لا يعرف التردد، ولا يهاب الفقد». ومن هنا، كانت أمي الخالدة ترى في شقيقي الأصغر عبد العزيز، بذرة من البطولة، والعنفوان، والصلابة، وتؤمن أن الله يختار من عباده من يستحقون. لم تخشَ أن تفقده يومًا، وكان هو أيضًا يُهيئها لوقت رحيله. كبر عبد العزيز، واشتد عوده، وتشدق بندقيته مجاهدًا صنديدًا في ساحات المعارك والفداء، ولم يكن يعلم تفاصيل هذا النذر، ولا نحن أيضًا، حتى صرّح به والدي بعد استشهاد أخي عبد العزيز، رحمه الله.
في السابع من أكتوبر 2023م، كان العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة على قطاع غزة. لم نكن نعلم أن أمي هي أول العارجين إلى السماء، لم نكن نعلم أنها نذرت نفسها لله عز وجل. لم نكن نعلم أنها ستغادر الدنيا قبل أن يتقبل الله منها موهوبها الذي وهبته. لقد زادها الله كرمًا، وقبولًا، ورضى، بأن سبقته شهيدة صائمةً، مباركةً، صابرةً في محراب صلاتها. لكن لم يطل اشتياقها لموهوبها، فقد استقبلت أمي أخي عبد العزيز شهيدًا بعدها ببضعة أشهر، وبنفس الصواريخ الحاقدة، بعد أن أثخن في الأعداء، ولاحقته طائرات الغدر الإسرائيلية في شمال غزة، ليظفرا بنيلهما منحة إلهية دائمًا ما سعيا من أجلها.
ذكراها كالصلاة لا تُنسى ولا تؤجل
مع حلول الذكرى الثانية للارتقاء والفقد العظيم، لا أملك إلا أن أقول: الحمد لله أنكِ كنتِ أمي. رحلتِ جسدًا، لكنكِ باقية فينا ما دمنا أحياء. كنتِ أكثر من أم، كنتِ وطنًا يسكننا، كنتِ مثالًا للوفاء والتضحية على مر الأيام، تزرعين فينا القوة والعزيمة، وتغرسين الثبات فينا بحضوركِ المهيب، منذ كنا صغارًا وإلى أن كبرنا.
أكتب إليكِ يا طاهرة القلب والروح مشتاقًا، لا بكاءً على الغياب، بل امتنانًا للحضور الذي لا يزول، حضوركِ الذي يسكننا، يوجّهنا، ويضيء لنا الطريق كلما أظلمت الدنيا. نرفع رؤوسنا بكِ، لا لأننا فقدناكِ مفجوعين، بل لأنكِ علمتِنا كيف لا نفقد أنفسنا حين يخذلنا العالم. كنتِ لنا المرشد والمعلم، كنتِ مدرسةً في بيتٍ كان مليئًا بالدفء، والحنان، والأمل، وسيبقى كذلك ما حيينا، لأنكِ زرعتِ فيه من روحكِ ما لا يذبل.
لقد أخبرنا دمكِ أنكِ الأطهر، والأصدق، والأنقى، والأوفى، والأجود، والأرفع، والأسمى. دمكِ لم يكن نهاية الطريق، بل بداية لعهدٍ من الخلود، وميراثٍ من الكبرياء والوفاء. ستظل القصة تُروى في صدور أبنائنا، وسيواصلون الطريق الذي رسمته دماؤكِ، كأمانةٍ في أعناقهم، جيلًا بعد جيل.
ما زلنا نذكركِ يا أمي، وكما أردتِ: صابرين محتسبين، راضين، ثابتين على الحق، لاجئين إلى الله في كل الأوقات لا قنوت من رحمته ولا سخط من أقداره. نمضي لأنكِ علمتِنا أن درب الشهادة والشهداء ليس موتًا، بل حياة أبدية، وأن من يختاره الله لا يغيب، بل يُخلّد ويسخر الله له إلى ذلك سبيلًا. لذلك، صار غيابكِ يا مهجة قلبي حضورًا دائمًا، كالصلاة، لا يُنسى ولا يُؤجل. وصار طيفكِ في الوطن فصلًا من فصول قصته، وتاريخه، وبطولاته. فسلامٌ عليكِ يا أمي، ورحمة الله وبركاته، وإلى لقاءٍ موعودٍ في جنان الخالدين.
 
                                 
                             
                                         
                                             
                                             
                                             
                                             
                                            