في مشهدٍ يختصر ما يُسمّى «الإبادة الرقمية»، أقدمت شركة «ميتا» على حذف حساب الصحافي والمصوّر الفلسطيني الشهيد صالح الجعفراوي من منصة «إنستغرام» بعد أيام معدودة على استشهاده في غزة، في نسخة طبق الأصل لتسلسل الأحداث عند اغتيال الاحتلال للصحافي أنس الشريف، ومؤشّر إضافي على تجنيد الخوارزميات بهدف استكمال الإبادة لتطال الذاكرة الفلسطينية الرقمية ومحتوى يوثّق الجرائم الّتي تعرّض لها شعب بأكمله على مدى عامين من حرب الإبادة.
في هذا الإطار، يعدّ حساب الجعفراوي، الذي تجاوز عدد متابعيه أربعة ملايين، أحد أبرز الأرشيفات البصرية للحرب في غزة. وعلى مدى عامين، وثّق الشاب بعدسته الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين، مقدّمًا محتوى إنسانيًا صادقًا نادرًا في زمن الصور المفلترة والروايات الموجّهة. لكن فور إعلان استشهاده في 12 تشرين الأول (أكتوبر)، اختفى حسابه بالكامل من الفضاء الرقمي، من دون أيّ إشعارٍ أو مبرّرٍ واضح.
في الوقت الذي تتيح فيه سياسات «إنستغرام» لعائلات المتوفين طلب حذف حساباتهم، تؤكد المعطيات أنّ عائلة الجعفراوي لم تقدّم أي طلب في هذا الخصوص، ما يعني أنّ الحذف كان قرارًا داخليًا من الشركة، التي برّرت الخطوة بأنها تندرج ضمن سياستها المتعلّقة بـ«المنظّمات والأفراد الخطرين»، وهو المسمّى نفسه الذي استُخدم مرارًا لتبرير حذف محتوى فلسطيني أو تعطيل حسابات صحافيين وناشطين يوثّقون الجرائم الإسرائيلية.
من جانب آخر، أثارت الخطوة غضبًا واسعًا، واعتبرها ناشطون محاولة متكرّرة لطمس الأدلة الرقمية على الانتهاكات في القطاع، ووصفتها المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة فرانسيسكا ألبانيزي بأنها «قتل للصحافي مرتين»، في إشارةٍ إلى محو إرثه المهني بعد اغتياله الجسدي.
لا يتوقّف الملف عند حادثة واحدة. بحسب تحقيقٍ نشرته منصة «دروب سايت نيوز» في نيسان (أبريل) الماضي، استجابت «ميتا» لما يقارب 94 في المئة من طلبات الحذف الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب، ما أدّى إلى إزالة أكثر من تسعين ألف منشور أو تقييدها، أحيانًا في غضون ثوانٍ، من دون أي تدقيقٍ مستقلّ. ويكشف التقرير أيضًا أنّ مئات الموظفين في شركات التكنولوجيا الكبرى، من بينها «ميتا» و«غوغل» و«مايكروسوفت»، هم من خريجي وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200، وهو ما يثير تساؤلاتٍ حول استقلالية القرار الرقمي ومصدر الرقابة الخوارزمية على المحتوى الفلسطيني.
في سياقٍ أوسع، تأتي هذه الممارسات ضمن ما يصفه خبراء بـ «الأبارتهايد الخوارزمي»، حيث تتحوّل المنصات إلى أدواتٍ لصياغة الرواية بما يخدم مصالح سياسية محدّدة، وتُدار خوارزمياتها كجزءٍ من منظومة الهيمنة لا كوسيطٍ محايد. بينما تُبقي الشركة على حملاتٍ تروّج لمزاعم إسرائيلية، تُسارع إلى تقييد كل ما يُذكّر بضحاياها الفلسطينيين.
ما جرى مع صالح الجعفراوي ليس مجرد حذفٍ لحسابٍ شخصي، بل طمسٌ لذاكرةٍ جماعية ودفنٌ لشاهدٍ رقميٍّ على جريمةٍ مستمرّة. وإن مُسحت صوره من الشاشات، فإنها ما زالت محفورة في وعي جمهورٍ رأى من خلالها الوجه الحقيقي للوحشية الإسرائيلية التي استبسل الإعلام الغربي على مدى عقود في إخفائها. رحل الجعفراوي جسدًا، لكن صوته لا يزال عصيًّا على الصمت، فيما يبقى سؤال العدالة الرقمية معلّقًا أمام شركةٍ تتحدّث عن حرية التعبير وتمارس عكسها كل يوم.
 
                                 
                             
                                         
                                             
                                             
                                             
                                             
                                            