اوراق خاصة

من غزة إلى الجنوب..الوجدان المصري في رحلة الإدراك بعد الصدمة والانقلاب

post-img

معتزّ منصور/ كاتب

وجدان يتقلّب بين المأساة والإلهام 

لم تكن حرب أكتوبر/تشرين الأول في العام 2023 حدثًا فلسطينيًا فحسب، لقد كان زلزالًا وجدانيًا في الضمير العربي، لاسيما في مصر، والتي لطالما كانت مرآة المشرق وميزان وعيه.

منذ اللحظة الأولى للهجوم المفاجئ على المستوطنات الإسرائيلية، بدأ المصريون رحلة طويلة من التأمل في معنى "الفعل العربي"، وفي موقعهم من معادلة الشرف التي استيقظت من تحت ركام التطبيع والتعب..

لكنّ التحوّل الأعمق، في تلك الرحلة، لم يبدأ من غزة وحدها، بدأ من الجنوب اللبناني الذي قرّر منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول أن يكون السند الذي لا ينام فاتحًا جبهة الإسناد الأشرف في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي المعاصر..

المرحلة الأولى: الصدمة وارتجاج الوعي (أكتوبر/تشرين الأول 2023 – فبراير/شباط 2024)

كان المصري في تلك اللحظة أمام مشهد مزدوج: غزة تقاتل وتحترق، ولبنان يتحرّك بحسابٍ موزون

بينما المدن المصرية تتابع، كل مساء، صور الدمار؛ كان الإعلام الرسمي يوازن بين "التعاطف الإنساني" و"التحذير من الانزلاق"..

لكنّ الوجدان الشعبي تجاوز الخطاب الرسمي مبكرًا..

في الأحياء الشعبية، وفي المقاهي، وفي جلسات المثقفين، بدأ يتشكّل خطاب جديد: "دي مش حرب غزة، دي حرب العرب كلهم".. هذه الجملة التي خرجت أولًا من الشارع، قبل أن تتبنّاها لاحقًا بعض الأقلام المستقلة، كانت إعلانًا عن يقظة وجدانية مصرية، كأنّ الروح التي عبرت القناة، في العام 1973، قد وجدت من يعبر عنها من جديد .. وهذه المرة من غزة.

المرحلة الثانية: الإسناد اللبناني وحين اتّحدت الجبهتان (أكتوبر/تشرين الأول 2023 – سبتمبر/أيلول 2024)

منذ اليوم التالي للهجوم، فتح حزب الله جبهة الجنوب بعمليات محسوبة، هدفها ليس إشعال حربٍ شاملة؛ بل تشتيت جيش الاحتلال الإسرائيلي وإشغاله وإسناد غزة بالنار والعين معًا..

كان لذلك أثر نفسي هائل في الوعي المصري.. فالمصري الذي كان يرى الفلسطيني وحيدًا أمام آلة القتل، بدأ يشاهد شقيقًا عربيًا يشارك في المعركة من دون إذنٍ من أحد..

مع مرور الأشهر واشتداد القصف على غزة؛ ازداد الإعجاب المصري بالموقف اللبناني وبالانضباط الذي جمع بين التحفّظ العسكري والكرامة السياسية..في مقاطع الفيديو المنتشرة على المنصات المصرية، كانت مقاطع الفيديو للمقاومين اللبنانيين وهم يقصفون مواقع العدو على طول الجبهة الجنوبية للبنان، ترفق غالبًا بتعليقات مثل:

“شُفْتْ؟ دول بيقاتلوا بكرامة.. مش بالكلام.."..

كانت تلك لحظة توحّد رمزي نادر بين غزّة والجنوب في المخيال المصري...واحدة تدفع الدم، والأخرى تحميها بالنار..

مع مرور الشهور، صار اسم السيد حسن نصرالله حاضرًا في الوجدان المصري حضورَ الزعيم، لا الطائفة ولا الحزب.. لقد استعاد الرجل، بخطاباته الموجزة والمكثّفة، هيبة الزعامة العربية التي افتقدها المصريون منذ زمن الراحل جمال عبد الناصر..

في كل ظهور له، كانت القاهرة تصغي.. لا القاهرة العاصمة الرسمية، بل القاهرة المدينة التي تستعيد صدى صوتٍ كان يقول: "ارفع رأسك يا أخي".. 

"سبتمبر/أيلول الأسود".. حين دخل الجنوب التاريخ بدمائه

بعد ذلك جاء سبتمبر/أيلول 2024، الشهر الذي سمّاه العرب، من أقصاهم إلى أقصاهم، "سبتمبر الأسود الجديد" أو "أيلول الأسود الجديد".. لا بمعناه الأردني القديم، بل كناية عن الخسارة الفادحة التي لحقت بالمقاومة اللبنانية باغتيال السيد حسن نصرالله وعدد من كبار قادتها في معركة الإسناد..

كان ذلك اليوم بمثابة لحظة حداد عربية شاملة..

في مصر، كان وقع الخبر مزلزلًا:

لم يُنظر إليه على أنه خبر سياسي، بل ساد شعور بفقدٍ رمزي لآخر الرجال الكبار.

انتشرت صور نصرالله على صفحات التواصل المصرية، كما لو كان "قائدًا قوميًا"، لا زعيم حزب لبناني..

المصريون الذين تربّوا على خطاب "الزعامة القومية" وجدوا في رحيله إحياءً لذاكرتهم العاطفية..

حزنٌ بحجم الأمة، لا بحجم الطائفة

لم تكن المفارقة في أن رجلًا لبنانيًا شيعيًا صار رمزًا قوميًا مصريًا، بل في أن الفقد حرّك ما كان ساكنًا في الوجدان القومي المصري..

لقد جعلت معركة الإسناد من السيد نصرالله "عبد الناصر الجديد" في الوعي الجمعي المصري الدفين الذي واجه "إسرائيل" من دون خوف، وارتقى واقفًا راسخًا عند المبدأ..

المرحلة الثالثة: من الحداد إلى الإدراك (خريف 2024 – ربيع 2025)

ما بعد استشهاد السيّد حسن نصرالله، لم يتوقّف الإسناد اللبناني، لقد تحوّل إلى ملحمة رمزية ممتدّة.. ففي عدوانٍ استمرّ لستّةٍ وستين يومًا، شهد العالم العربي مشاهد بطولية لمقاتلي المقاومة وهم يثبتون على حدودهم الجنوبية، يحولون بين أرضهم وجنود العدو، ويكتبون بدمائهم صفحة جديدة في سجلّ الكرامة..

رفض المصريون أن يمرّ الأمر خبرًا عابرًا..

تحوّل الجنوب اللبناني، في المخيلة الشعبية، إلى رمزٍ للوفاء والفداء العربي الأخير؛ هناك حيث تلاقت البطولة بالوداع والعزّة بالحزن النبيل..

في قلب هذا التحوّل، وُلد في مصر وعيٌ جديد بمعنى المقاومة.. إنها ليست مذهبًا، ولا حزبًا، ولا مشروعًا سياسيًا، بل معيارُ الشرف في زمنٍ فقد الأوزان.. 

منذ تلك اللحظة، بدأ المصريون يقارنون، من دون خوفٍ أو مواربة، بين لبنان الصغير الذي قدّم الدم والدول الكبرى التي لم تقدّم سوى البيانات..

من رحم هذه المقارنة وُلد ما يمكن تسميته بـ "الوعي الناقد"..

وعيٌ يسائل الدولة لا ليهدمها، بل ليوقظها..

وعي يقول همسًا ولكن بصلابة: "إذا كان لبنان المنقسم والفقير قد أذلّ جنرالات إسرائيل، فما الذي يمنعنا نحن من أن نستعيد ما كُنّا عليه؟!..

في هذا السياق، لم يعد التفاعل المصري مقتصرًا على الانفعال الوجداني أو التقدير الرمزي، لقد امتدّ إلى حقل الفكر والتحليل، فصدرت مؤلفات تناولت تجربة المقاومة بوصفها "مدرسة" قائمة بذاتها، ومن أبرزها كتاب "مدرسة حسن نصرالله وآيات يحيى السنوار" بقلم عبد الحليم قنديل، وكتاب "الفكر الاستراتيجي في مدرسة السيد حسن نصرالله" لمؤلفه إيهاب شوقي، وهما عملان يعكسان انتقال الوجدان المصري من الانبهار إلى الدراسة، ومن العاطفة إلى محاولة الفهم البنيوي للفكر المقاوم...

إلى جانب الحراك الفكري؛ برزت أيضًا ملامح تفاعل شعبي وسياسي ميداني، تمثّل أبرزها في تحرّكات "حزب الكرامة"، ولاسيما طليعة شبابه الذين أصرّوا على الدعوة لأداء صلاة جنازة رمزية على روح سماحة السيد حسن نصرالله، وهو ما أثار حفيظة الأجهزة الأمنية وأدّى إلى ملاحقاتٍ طالت عددًا منهم.. كما يمكن لأي متابع رصد نشاطات الشباب القومي العربي في القاهرة، وخصوصًا من التيار الناصري، في كتاباتهم وتعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي التي عبّرت بوضوح عن انتماء وجداني وفكري عميق لخط المقاومة، وعن إيمانٍ بأن نصرالله لم يكن مجرد زعيم لبناني، لقد كان رمزًا قوميًّا عربيًّا متجاوزًا للحدود.

بين نصرالله والسنوار.. رمزان على خط النار..

جاء استشهاد يحيى السنوار ليكمل المشهد الرمزي ذاته..الضجة التي اجتاحت الشارع المصري لم تكن مجرّد حزنٍ على قائد فلسطيني، كانت انبهارًا بالصمود التي عاشها حتى لحظته الأخيرة؛ لقد استُشهد وسلاحه في يده، مقاتلًا لا مختبئًا.. في مواقع التواصل المصرية، كتب كثيرون أن “السنوار رحل كما يليق بمَن باع نفسه للقضية"، بينما رأى آخرون أن استشهاده أعاد تعريف البطولة في زمنٍ نسي معنى الفداء...

هكذا، صار الرجلان (نصرالله والسنوار)، في المخيال المصري، وجهين لصورة واحدة: القيادة التي لا تهرب من قدرها..

المرحلة الرابعة: الوعي المقارن واستعادة المعنى (2025 – حتى تاريخه)

بحلول خريف 2025، تبدّلت نبرة المصريين جذريًا.

لم يعودوا ينظرون إلى حرب غزة وحرب لبنان حدثين منفصلين، بل هما تجربة واحدة في الدفاع عن الكرامة العربية.. ولم يعودوا ينظرون إلى المقاومة بعين "التعاطف"؛ إنما بعين "الاعتراف"..

التحوّل الأهم، هنا، هو أن المصريين وجدوا في المقاومة مرآة لذاتهم المفقودة.. لم تعد المسألة مجرد تأييد أو رفض، لقد اضحت حاجة نفسية إلى تصديق أن العزة لا تموت..

هكذا انتقل الخطاب المصري الشعبي من: "يا رب انصر غزة" إلى "يا ريتنا زيّهم، نقول ونفعل"..! وهو انتقال بالغ الدلالة: من الدعاء إلى التطلّع، ومن التطلّع إلى المراجعة الوطنية..

في الكتابات الشابة، وفي المحتوى المصري الجديد، بدأت تتكرّر كلمات مثل: “الكرامة، الشرف، السيادة، الوعي، الصمود..كأنّها معجمٌ قديم يعود للحياة بعد أن كان منسيًا..

ما بعد السيد وما بعد الحرب

ختامًا

لقد أعادت مرحلة الإسناد اللبناني ومعركة "سبتمبر الأسود، أو "أيلول الأسود" تعريف العلاقة بين مصر والمقاومة.. فمنذ رحيل نصرالله، لم يعد السؤال المصري عن "من يقاتل؟ بل عن "من بقي واقفًا يقاتل؟.. ولأن المصري ابن التجربة القومية، فهو لا يُفتن بالشعارات بل بالفعل.. وقد رأى، في تجربة الإسناد اللبناني، البرهان العملي على أن الشرف لا يُدار من العواصم؛ إنما يُصنع على الجبهات..

اليوم، حين يتحدث المصري عن لبنان، لا يستدعي صورة بلدٍ غارقٍ في الأزمات، إنما صورة الجنوب الذي قاتل دفاعًا عن غزة، ودفع أغلى ما لديه.. وحين يذكر اسم نصرالله، لا يتحدث عن حزبٍ أو طائفة، إنما عن معنى كاملٍ للقيادة والمبدأ...

في الوجدان المصري، تحوّلت تجربتا الحربين الفلسطينية واللبنانية إلى مدرستين في إعادة تعريف الرجولة والسيادة.. ومن يتأمل هذا الوجدان الآن، يدرك أن المصري، على الرغم من تعب السياسة وتناقضات الواقع، لا يزال يبحث عن ذاته في المواقف التي تشبهه: صلبة، صبورة، لا تخاف، ولا تبيع..

لهذا السبب بالذات، حين يُذكر اسم نصرالله في مصر، اليوم، لا يُقال "رحمه الله" وحسب، بل يُقال: " هو لسه حي… في اللي ما انكسرش..".

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد