أوراق سياسية

أداء واشنطن وتل أبيب يعني أن الحرب لم تُحسم والمقاومة لم تُهزم

post-img

علي حيدر (الأخبار)

أطلق العدوّ ورشة لإعادة صياغة مفهوم الردع والدفاع الهجومي. السبب الأساسي قناعته بأن الحرب لم تُحقق النتائج العسكرية التي كان يقدرها ويأملها. في تأكيد جديد على أن الحروب الحديثة لم تعد تُقاس حصرًا بمقدار الدمار أو عدد الصواريخ، بل بقدرة كلّ طرف على الاستمرار في الفعل السياسي والعسكري بعد الحرب.

واضح أن المواجهة تطوّرت نحو صراعٍ على الوعي والشرعية، بين مشروع يرسّخ المقاومة كقوة دفاع ورد في مواجهة أي عدوان أو احتلال للأراضي اللبنانية، وبين مشروع العدوّ الساعي إلى تفكيك عناصر الصمود عبر خلطة فيها التهويل السياسي والإعلامي، وفيها الضغط الاقتصادي، بالتزامن مع تصعيد مفتوح على سيناريوهات متعددة.

أما في قراءة المقاربات لحملات التهويل "الإسرائيلية"، فهناك من يراها تمهيدًا لحربٍ جديدة، وآخر يقرأها كامتدادٍ لحرب الوعي. لكن التمعّن في طبيعة الخطاب "الإسرائيلي"  يكشف أنها أكثر من حربٍ نفسية، دون الحسم في ما إذا كانت تمهيدًا لإعلان حربٍ واسعة. ولذلك، نحن أمام مرحلة اختبارٍ للحدود القصوى للضغط قبل بلوغ الانفجار، وهي أيضًا محاولة انتزاع المزيد من التنازلات من لبنان تحت شعار "تجنّب الحرب".

التجربة التاريخية مع العدوّ علمتنا أن التنازلات لا تمنع العدوان بل تُغريه بالمزيد. وما نشهده اليوم هو مناورة إستراتيجية تهدف إلى فرض "الإخضاع" على أمل تحقيق ما عجزت عنه القوّة العسكرية. وفي هذا السياق يأتي الدور الأميركي في محاولة تثمير الاعتداءات لتحقيق الأهداف السياسية.

من جهة أخرى، فإن تصاعد الاعتداءات على وقع مواقف وتقديرات ودراسات، يعكس إقرارًا ضمنيًا من قبل العدوّ أنه بالغ في تقدير نتائج الحرب السابقة. فبينما يرُوِّج إعلاميًا أنه دمّر ما بين 70 إلى 80% من قدرات حزب الله، فإن العدوّ نفسه يعود للحديث عن القدرات، بما يؤشر إلى أنه تراجع عمليًا عن هذه النسب. وهو أطلق حملة تحت عنوان أن حزب الله أعاد بناء منظوماته التقنية والتنظيمية، وهو إقرار آخر بأن حزب الله يتمتع بدرجة مرونة تمكّنه من التكيف مع الضغط المستمر، ما يقود إلى الخلاصة التي يردّدها قادة العدو، حول أن الوقت يعمل لصالح الحزب ولو نسبيًا، وهو ما يكرّره الأميركيون أيضًا، في محاولة لتبرير ضرورة العجلة في الخطوات العملية ضدّ حزب الله.

وقد يكون هذا هو السبب الذي دفع بمدير معهد دراسات الأمن القومي "الإسرائيلي"  اللواء تامير هايمن، إلى التحذير من أن "الزمن يعمل ضدّ "إسرائيل"، وإذا لم تُتَّخذ خطوات حاسمة فستتبخر الكذبة اللبنانية"، في إعلان مباشر بأن نتائج الحرب المعلنة لم تصمد أمام اختبار الواقع.

بدايات التحوّل في الخطاب "الإسرائيلي"  لا تعنى تراجع العدوّ عن ادعاء الانتصار، بل يشير إلى انزياح في فهم معنى الحسم نفسه: من حسمٍ ميداني بدا أنه متعذر بفعل الصمود الميداني الأسطوري إلى محاولة حسمٍ سياسي - نفسي يسعى إلى تطويع البيئة اللبنانية من الداخل. ولذلك إن تكثيف التهديدات ورفع سقف الخطاب الإعلامي ليسا دليلًا على الثقة بالنفس، بل علامة ارتباك أمام مقاومة أثبتت قدرتها على امتصاص الصدمات وإعادة إنتاج القدرة على المبادرة.

لكن "إسرائيل" تُراهن على متغيّرات داخلية وإقليمية ودولية، تبدأ من التحول السوري، إلى الموقف الأميركي، إلى هشاشة الوضع الاقتصادي اللبناني، وصولًا إلى تبلور سلطة سياسية لبنانية معادية للمقاومة مفهومًا وخيارًا. وهذا ما عبّر عنه هايمن بقوله "يجب فعل المزيد وبسرعة لأن نافذة الفرصة على وشك أن تُغلق". لكن هذا الاستعجال نفسه يفضح قلق المؤسسة الأمنية من تعديل جدي في موازين القوى الموضوعية: فحزب الله بات أكثر تنظيمًا وخبرة، وشعب المقاومة في لبنان، رغم تضحياته، أكثر إدراكًا بمخاطر المقايضة بين السيادة والاستقرار المؤقت.

إزاء ذلك، لا بد من قراءة الأداء "الإسرائيلي"  في ضوء أبعاده البنيوية: فكيان العدوّ بعد حرب 2024، وجد نفسه أمام معادلة غير مرغوبة تتمثل بعجز القوّة المفرطة عن الحسم العملياتي وفرض الاستسلام، وإدراك عميق بأن الردع التقليدي لا يشكّل ضمانة لأمن مستدام. هذا الإدراك يدفع العدوّ إلى تبني مفهوم إستراتيجي وعملياتي بديل، ومحاولة التعويض أيضًا باللجوء إلى الحرب الإدراكية.

الحرب الجديدة على الوعي لا يمكن فصلها عن حرب الإرادات الأوسع التي تحدّد معالم مستقبل المنطقة. وفي هذا الإطار تدرك المقاومة، التي خبرت كلّ أشكال المواجهة منذ 1982 حتّى اليوم، أن المعركة ليست فقط على الوعي بل على الموقع والدور والهوية والوجود. وأبرز تجلياتها محاولة جر لبنان للالتحاق بمخطّط التطبيع (بغضّ النظر عن الغلاف الذي سيتم تغليفه به) بهدف تجريد المقاومة من معناها، ومنعًا لتكريس لبنان نموذجًا فريدًا في معادلة الإرادة والقوّة معًا.

مأزق العدوّ لا يقف عند اكتشافه أنه بالغ في تقدير نتائج الحرب على المقاومة وشعبها، بل يشمل إدراكه أنه كلما حاول فرض معادلة جديدة يصطدم بمعطيات الواقع. في المقابل، تعيد المقاومة رسم دورها مستفيدة من دروس المرحلة السابقة، والاستجابة الجادة والفاعلة لتحديات ومخاطر المتغيرات وفق أولويات مدروسة بدقة تجسد مصالح لبنان الوجودية والأمنية في حاضره ومستقبله.

وما هو قائم الآن ليس نهاية الحرب، بل بداية لوعيٍ جديدٍ في الصراع، أساسه أن توازن القوى لا يُقاس بالمدى الناري فحسب، بل بعمق المشروعية وثبات الإرادة، وبصيرة المجتمع التي تحصنه من الوقوع في الفخ الذي يُحاك ضدّه، ونتائجه ستؤسس لتداعيات على مدى عقود.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد