اوراق مختارة

«القبة» من معجزة نيماير إلى مرآة للانهيار الداخلي: فراس الحلاق يصوّر الحداثة اللبنانية المُجهضة

post-img

بول مخلوف/جريدة الأخبار

في وثائقي «جلسات القبّة»، يُعيد فراس الحلاق الحياة إلى مسرح «القبّة» المهجور في طرابلس، أحد رموز الحداثة اللبنانية المجهضة. بين التوثيق والتجريب، يوثّق الحلاق ذاكرة المكان وخرابه، محوّلًا فضاءه الموحش إلى مختبرٍ موسيقي وبصري يستحضر أسئلة الحداثة، الزوال، والذاكرة المعمارية اللبنانية

اختار المخرج اللبناني فراس الحلاق بناء فيلمه الوثائقي «جلسات القبة» على طلل المُتصدّع، المخرَّب، والجامد المنسيّ.

بناءٌ فوق الحطام ذاته، ففيلمه الوثائقيّ يسكن داخل عمارةٍ مهجورة تبدو في حالة هدمٍ رغم أنها قائمة، موجودة بالفعل. يدخل الحلاق بكاميراته إلى مبنى عُدّ يومًا بمنزلة معجزة معماريةٍ قبل أن يهرطق به طيش المقاتلين في سنوات الحرب ويُقعده تقاعس الحكومات في غرفة الطوارئ في مراحل السلم. تتسلل كاميراته إلى داخل تلك العمارة «الموحشة» (Brutalist) التي تخلى عنها التاريخ، ولم يبقَ منها، مع مرور الزمن، سوى الموحش، والناقص غير المكتمل، الذي ولد معها: مسرح «القبّة» في «معرض رشيد كرامي الدولي» (طرابلس ـ شمالي لبنان)، هذا المبنى الاستثنائي الذي حالت الحرب دون اكتماله، وغدا فراغه الداخلي مرآةً لخواء الخارج، فتحوّل من مسرحٍ تجريبي إلى نصبٍ شهد- ولا يزال- على الخراب اللبناني المديد.

بين توثيق وتجريب

بين التوثيق والتجريب، يتنقل فراس الحلاق في الأساليب محافظًا على إيقاع سردي متين لا تزحزح هذه التنويعات من تماسكه. غايته الظاهرة (والمعلنَة) من الوثائقي هو مقاومة النسيان، استحضار سيرة «الشيء» المطموس والمهمَل، أي حكاية «القبّة» عبر إعادة سرد تاريخ -ماضي- واحدة من أهم العمارات في لبنان (العالم؟). هذا على مستوى التوثيق. غير أنّ تجريبية الحلاق تفتح أفقًا مغايرًا، إذ يعيد نسج الخيوط الممزّقة فيرتق الثقب في القماشة. حياكته فإذًا لهي تخييط «القطعة الناقصة»، ليطلعنا على الجانب المهمَل، المُضاف إلى الإهمال القديم: حاضر «القبّة» ليمنحنا بذلك سرديةً كاملة. إنّه يقدّم تتمّة للحكاية إذن، حكاية حاضرها المُهمَل: «القبّة» ليست مهدّمة بل في حالة «تعليق» مستمر، إنها معطّلة، كيف لنا أن نحتكّ اليوم مع هذا «الشيء» إذًا... مع هذا المجسّم الذي يصبو إلى «تمثالٍ»؟ وما معنى هذه العمارة المهيبة التي حوّلها التاريخ إلى وجود ضحل بالكاد يُرى أو يُذكر؟

ذروة الحداثة المعمارية تصبح ثكنة

يسير وثائقي فراس الحلاق «جلسات القبّة» على خطين سرديين متوازيين. الأوّل -كما أشرنا آنفًا- ظاهر ومعلن، يبتغي تقديم حكاية «القبّة» على لسان المعماري وسيم ياغي الذي يروي لنا نشأتها، وتصميمها الفريد (تصميم المعلّم البرازيلي أوسكار نيماير) ووظيفتها الدلالية والاجتماعية. تلك «القبّة» التي شكّلت ذروة الحداثة المعمارية التي شهدها لبنان في الخمسينيات والستينيات، قبل أن تصبح بمنزلة ثكنة عسكرية في سنوات الحرب، كما يمدّنا ياغي بأسباب الخراب الحاصل فيها والمسؤولين عنه. الخط الثاني من السرد يبدأ لحظة الإعلان عن العطب الذي أصاب «القبّة». يتربص هذا الجانب من السرد بالعطل الحاصل، بـ«المخروب»، ويهتم زمنيًا بالحاضر... بـ«الآن». يأخذ الحلاق على عاتقه الانطلاق من التَلَف والترهل اللذين حلّا بـ«القبة». تجريبية الحلاق تنطلق من هنا، من إكمال «كتابة» سردية «القبّة»، على أنّ هذا الخط السردي يقدّمه بنفسه وبرفقة أصدقائه الموسيقيين في لغةٍ بصرية وسمعية (موسيقيًا).

مصدر للحزن والشفقة

«القبّة» كروية متقوّسة، لا تسندها أعمدة إنّما تنهض على الانحناءات والتمايل. زواياها مفقودة وسطحها عالٍ، وكأنها تنأى عن استقامة المباني المجاورة في الخارج، وتحمي من في داخلها من التلصص، وتمنحه شعورًا دفينًا بالأمان. إنها ذاك «الشيء» الضخم والآمن معًا. إنها هذا الغامض المثير، الكئيب والمذهل في آنٍ: إنها التناقض بعينه. و«القبّة» تعشق الصدى أكثر من الصوت، لا بل إنها مصنع للترددات الصوتية، بالتالي إنها استوديو خام وطبيعي، ويميل إليها مَن يفضّل الهمس والصوت الخافت على الصخب الساخط. إسمنتها صلد وفجّ، لكن التشققات تنهش جدرانها رغم قساوة إسمنتها، وتأكلها الرطوبة وتخترقها النتوء والثقوب.

تحوّلت «القبة» إلى مركزٍ يختبئ فيه المقاتلون سنوات الحرب

المعماري وسيم ياغي يخبرنا عن «القبّة» كما «كانت عليه»، وكيف «صُمِّمت» ولماذا أصبحت جدرانها اليوم كما هي عليه، وعيّن فراس الحلاق على المياه التي تنضح إلى جوفها موثّقًا الانهيار الفظيع: الرطوبة، والعفونة، والطلاء الرديء المطلي على الحيطان داخل تلك العمارة المهولة. يخرج ياغي الصوت، يستقبل الحلاق الصدى. لكن الاثنين يتردد في داخلهما شعور واحد يثيره هذا الفضاء المهيب: «القبة» التي تبعث الرهبة وتحفز على الصلابة، صارت تولّد الحزن والشفقة.

يستعين الحلاق بموسيقيين لبنانيين من مشهد الموسيقى «المعاصرة» و«البديلة»، وبـ «كورال الفيحاء» كذلك: ما دامت «القبّة» في أصلها مسرحًا تجريبيًا، فلتكن إذًا قبوًا للتجريب المعاصر. بدلًا من رصد وتتبع آثار التحوّلات الطارئة على «القبّة»، يختار الحلاق هنا الخروج من التوثيق والنزوع صوب الجمالي، أو فلنقل التعبيري.

قصة لبنانية لم تكتمل

هكذا، يتعمّد تثبيت كاميراته في لقطات طويلة على هؤلاء الموسيقيين، ويشرك جمهوره في مشهدٍ موسيقيّ، يتماهى مع طابع المكان بغموضه وكآبته (وقد صدر ألبوم موسيقي يحمل العنوان نفسه «تسجيلات جلسات القبة» Dome sessions records يضم القطع الموسيقية المعزوفة في هذا الفيلم الوثائقي): مناخ القنوط المخيّم، يرسم طقسًا تراجيديًا يليق بحكاية (مأساوية) الحداثة اللبنانية التي لم تكتمل.

«القبة» أساسًا أشبه بـ«طوطم» التناقضات، والتاريخ اللبناني يضاعف تناقضاتها. والحال هذه أنّ قصّة «القبّة» تبدو كأنّها تجسيد لقصة الحداثة اللبنانية المجهَضة. في وثائقي «جلسات القبّة»، يبيّن لنا الحلاق أنّ ما يبدو انقطاعًا زمنيًا ليس إلا تحوّلات مستمرة تطاول العمارة نفسها، وهو يكتب لنا الفصل الأخير من هذا التحوّل: الفصل الذي له علاقة بـ«الآن وهنا».

 من وثائقي «جلسات القبّة»

لقد حضرت «القبّة» كتجلٍّ حداثوي لمناخ ساد في لبنان منذ ما يقارب نصف قرن، وكان من بين غاياتها الدلالية، إضفاء صورة ثقافية جليلة (والجليل هو المرعب الذي يخبئ في طياته الجميل تمامًا كـ«القبة») للبنان. تحوّلت «القبة» إلى مركزٍ يختبئ فيه المقاتلون سنوات الحرب، ثم تُركت لوعود مؤجلة واقفة وحيدة تنتظر غودو لن يأتي.

يكمل الحلاق الحكاية التي توقفت. سرده يبدأ من السائل والرخو الذي طرأ على المستقيم الصلب، ومن العفونة والتصدّع ينطلق ويتساءل: ما هي الدلالة المعمارية لهذا المكان اليوم، وما معناه؟ لقد صارت هامشًا. انتقلت «القبّة» من «المتن/ المركز» إلى «الهامش/ الحاشية». غير أنها مهما اختلف «موضعها» وتعطّل دورها، فإنّها تبقى ذاكرة جماعية شاهدة على التحوّلات، لكن في انتقالها إلى الهامش، فقد غدت وظيفتها/ دورها «تغليف» شيء من الحاضر.

ثمة من هو مهتمّ بـ«مخلّفات» هزائم الحداثة اللبنانية، مثل تلك الأبنية المهملة، السكك الحديد المنهوبة، وأطلال المشاريع التي لم تكتمل. يبدو فراس الحلاق واحدًا من هؤلاء الذين يلوذون بهذا «الهامش» لسبب بسيط: أنّ فراغ هذا المبنى الداخلي يحتضن حداثة لا تجد لنفسها مكانًا وسط خواء الخارج.

يختزل سرد الحلاق في أنّ هذه «القبة»، باتت في الحاضر، ملاذًا لحداثة تجد نفسها هامشية. جاءت «الوحشية» في العمارة لتقضي على النوستالجيا والحنين، لكن وثائقي «جلسات القبة» لفراس الحلاق يوقظ شيئًا من هذا القبيل، أن تَحنّ إلى حداثةٍ آفلة، وأن تَرى في عمارات «الوحشية» بيتًا ممكنًا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد