حسين كوراني
مثّل الحاج محمد عفيف النابلسي بجرأته التي تحلى بها في أصعب الشدائد، الصوت الإعلامي الأول للمقاومة خلال تصدّيها للعدوان "الإسرائيلي" على لبنان، كانت كلماته ووقفاته الصّحفية الشجاعة في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، لا تقل أهمية عن رصاص وصواريخ المقاومين الذين يخوضون أعتى المواجهات مع جنود الاحتلال عند قرى الحافة الأمامية.
بالفعل كان الحاج محمد عفيف على صعيد إعلام المقاومة رجل بألف رجل. رغم اغتيال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله وعدد من قادة المقاومة لم يتراجع عن تقديم رواية المجاهدين كما هي، إذ راح يصول ويجول ناطقًا إعلاميًا باسم المقاومة، مُكذّبًا وسائل إعلام العدوّ التي مارست حرب نفسية كبيرة على بيئة المقاومة لزعزعة ثقتها بنفسها وثنيّها على رفع راية الاستسلام.
لكن مهما بلغت التضحيات والأثمان، وفي أحلك الظروف وأصعبها عدوانية، انتفض الحاج محمد عفيف ليؤدي تكليفه الجهادي على أكمل وجه غير آبه بالشهادة، ونهضَ ليكون الصوت الشجاع الذي يصدح بالحق تاركًا تأثيرًا كبيرًا داخل بيئة المقاومة ومعنوياتها، وإرباكًا واضحًا للعدو حتّى وصل الأمر إلى اغتياله.
وهذه هي قمة التضحية والإخلاص لمسيرة المقاومة أن تفهم تكليفك وتقوم به على أكمل وجه دون خوفٍ أو تردّد، وأن تعلم أن الشهادة حاضرة في أيّ لحظة، وتزداد إصرارًا وعزيمة في النطق بكلمة الحق والحقيقة، مُبلسمًا لجراحات بيئة المقاومة وجمهورها، ناقلًا أخبار محاور القتال كما هي.
هكذا إذًا، قرر العارف بالسياسات والخبير بصياغة الموقف، أن يجعل لسانه مرآة للمقاومة وصدره درعًا لحمايتها. وأثناء عقده مؤتمرًا صحفيًا في قلب المعركة في الضاحية الجنوبية هدّد وتحدّى "الإسرائيلي" وسمّى رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو بالاسم، وعلى اثرها تلقى الحاج محمد عفيف رسالة من أحد أصدقائه يقول له: "إطلالة موفقة وخطوة كبيرة من الإعلام إلى السياسة".. فكان ردّه: "خطوة كبيرة من الحياة إلى الموت".. وكأنه في كلّ مسيرته كان يتهيأ لتلك اللحظة.
إنها لحظة مصيرية من حياة أمة المقاومة وفي أصعب مراحل الصراع مع العدو، وقّع فيها الحاج محمد على وسام الشهادة، في مسيرة عاشته أكثر مما عاشها، ونذر عمره بأكمله من أجل خدمتها، ليختم مسيرته المقاوِمة هذه بصوته الذي عَلا فوق صوت صواريخ الطائرات ووصل إلى عمق الكيان الصهيوني المصطنع.
هذه المغامرة التي أقدم عليها "صانع الرواية" أو "صوت المقاومة" في زمن كانت وحدها المدافع من تتكلم، لم يكن غافلًا عما ستجلبه له، لذلك نذر نفسه استشهاديًا من أجل الدفاع عن المقاومة وشد عصبها بعد أن أمعن العدوّ باغتيال قادتها وضرب قدراتها، وارتكب أفظع المجازر بحق أهلها، وشنّ حملات إعلامية هدفها كيّ الوعي وتشويه الإدراك وسحق الإرادة.
فما كان من تلميذ مدرسة القائد الملهم السيد حسن نصر الله إلا أن يخرج إلى الميدان، لا ليملأ الفراغ فقط، بل ليجعل نُطقه درعًا في وجه العدوان، وصوته حافزًا لثبات مجتمع المقاومة، فكان خطابه أعلى من توقعات العدوّ نفسه حين قال "حزب الله أمة والأمم لا تموت"، وهذه العبارة حدّدت للعدوان سقفًا يَصعب الوصول إليه.
إذًا، هذا هو الحاج محمد عفيف، مدرسة في الشجاعة والايثار وتأدية التكليف، هذه المدرسة الإعلامية لم تنتهِ باستشهاده بل سنبقى نستلهم منها كلّ معاني العزّة والكرامة والتضحية والوفاء لأرض الوطن وأهله، وقد أثبتت الأيام صدق مقولته أن "حزب الله أمة والأمم لا تموت"، كما بَرهن أنه يُمكن للإعلامي أن يكون صوت الأمة وقلبها النابض في زمن الحروب المصيرية.