أوراق سياسية

بين دمشق وواشنطن: تحالفات كبيرة وواقع هشّ

post-img

جو غانم (الميادين)

منذ الإعلان عن موعد زيارة الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، إلى واشنطن، إلى حين مغادرته البيت الأبيض بعد لقاء مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وحتّى اللحظة، لم يتوقف الجدل حول هذا الحدث في الداخل السوري، بل تحوّل إلى نقاش عام زاد من حدّة الانقسامات في المجتمع.

فالرجل الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية، حتّى أشهر قليلة خلت، تضع مكافأة تبلغ 10 ملايين دولار مقابل رأسه، دخل البيت الأبيض كضيفٍ رسميّ بصفته رئيسًا للمرحلة الانتقالية في سورية، بعد أن سعت إدارة ترامب بقوة إلى رفع اسمه من قائمة "الإرهاب" الدولية، وهو أمر لم يحدث كثيرًا في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا أن الشعب السوري، ومعه عموم أهل الكوكب، باتوا يعرفون أن دونالد ترامب، قد حوّل كلّ شيء في السياسة، كما في الاقتصاد وكذلك في الحرب، إلى "صفقات" يسعى إلى الربح السريع منها. فأيّ صفقةٍ أراد ترامب عقدها مع قادة دمشق الجدد؟ وهل يستطيع هؤلاء تأمين "الصفقة الرابحة" المنشودة للرئيس الأميركي الجشع فعلًا؟ 

في الطريق من البرازيل إلى الولايات المتحدة الأميركية، نشر وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، عبر حسابه على موقع "إكس"، شريطًا مصوّرًا يُظهره رفقة الرئيس الانتقالي السوري، أحمد الشرع، وقائد القيادة الأميركية المركزية، الجنرال براد كوبر، والعميد كيفن لامبرت، قائد "قوة المهام المشتركة"، وهم يلعبون "كرة السلّة" معًا.

والواضح أن الشريط قد تمّ تصويره في وقت سابق في العاصمة السورية دمشق. وبالطبع، فقد تضمّن الشريط تلك الضربات التي أصابت هدفها فقط.

هذه ليست المرة الأولى التي يعمد فيها الفريق الدعائي الخاص برئاسة الجمهورية السورية، إلى بثّ مواد كهذه قبل كلّ استحقاق أو زيارة دولية مهمة. وقد باتت تلك الوسيلة الدعائية المستحدثة في السياسة السورية، معروفة بإثارتها للجدل والنقاش منذ أشهر، وقد نجحت هذه المرة أيضًا في إيصال عدد من الرسائل المطلوبة في أكثر من اتّجاه.

وقد انقسم السوريون بالفعل حول هذا الأمر، فمنهم من أشار إلى "براعة" الدبلوماسية السورية التي أوصلت أهل السلطة في دمشق إلى واشنطن، لتكرّسهم شريكًا في تحالف دولي كبير (التحالف الدولي ضدّ الإرهاب) يضمّ /80/ دولة، وتفتح أمام الحكومة السورية جميع الأبواب السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية، بنظر هؤلاء.

ومنهم من ذهب إلى اعتبار أنّ ما تقوم به السلطة الحالية هو "لعب" بمستقبل البلاد وأهلها، من خلال سعي محموم إلى إرضاء الخارج على حساب الدولة الوطنية السورية وشعبها، خصوصًا في ظل غياب "الإنجازات" في الداخل حتّى اللحظة وعلى الصعد كافة، وأهمها ما يتعلق بالحالة الأمنية والوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يتصدر قائمة أولوية المجتمع السوري الذي أنهكته الحرب وأثقله الغلاء وتكاد النعرات الطائفية الدامية تمزقه تمامًا، بينما تسرح "إسرائيل" وتمرح في السماء السورية كما على أرض الجنوب.

وصل الشرع إلى البيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن، صبيحة يوم الاثنين الفائت، حاملًا معه العديد من الملفات والكثير من الأماني، ومنتظِرًا تلقّيه مطالب أميركية أكثر من هذا وذاك، يرى العديد من السوريين أن هذه السلطة لا تستطيع تحمّل كلفتها أو إنجازها من دون خسائر كبيرة على مستويات عدة. 

وقد كانت المنظمات السورية - الأميركية التي برزت في الآونة الأخيرة، قد عملت ليل نهار للترتيب لهذه الزيارة واستعراض مطالب دمشق والعمل على إزالة العقبات أمام سلطتها الجديدة، وقد واجه هؤلاء عقبات عديدة بالفعل، أبرزها ما يخص موضوع "قانون قيصر" والعقوبات الأميركية المفروضة على سورية، والتي تأتي على رأس الملفات التي يحملها الشرع إلى البيت الأبيض.

والواقع هنا، أن ترامب نفسه قد واجه هذه المعوقات، فهو يرى أن الشرع رجل يمكن الاعتماد عليه في أمور عديدة تهمّ الولايات المتحدة في تلك المنطقة، خصوصًا لجهة عقد الاتفاقيات مع "إسرائيل"، ودخول "الاتفاقيات الإبراهيمية"، والشراكة في "محاربة الإرهاب" في سورية والمنطقة، وهو يريد أن يمنحه فرصة العمل بحرية أكبر، وقد عبّر ترامب عن هذا الأمر بوضوح، بعد اجتماعات واتّصالات (وأموال) عديدة وكثيرة مع السعوديين والقطريين والأتراك. لكنّ بعض النواب والشيوخ الأميركيين، كما بعض المؤسسات السيادية الأميركية، عارضوا بشدة سياسة ترامب في هذا الشأن.

وهنا على سبيل المثال، وقف الرئيس الجمهوري للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركيّ، براين ماست (وهو جندي سابق كان قد فقد قدميه في أفغانستان، ومتعصب جدًّا لكيان الاحتلال الإسرائيلي) بقوة ضدّ الإلغاء الكامل لـ"قانون قيصر"، كما قاد السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، جهودًا كبيرة لتكريس الاشتراطات الحقوقية والأمنية التي يؤدي الالتزام بها إلى إلغاء القانون بعد مراقبة طويلة لإداء السلطة السورية على هذه المستويات. وهنا، برز دور كبير لتلك المنظمات، كما لبعض رجال الأعمال والمتموّلين والأكاديميين السوريين في الولايات المتحدة، الذين اشتغلوا بقوة (وبكلفٍ مالية كبيرة) لتغيير وجهات نظر بعض الساسة وأعضاء مجلسي النواب والشيوخ هناك، وقد استطاع أحد رجال الأعمال السوريين أن يرتّب "اجتماع عشاء" بين الشرع وماست نفسه، ليخرج الأخير متحدّثًا عن "انطباع جديد" عن الشرع وعن "الجهود الكبيرة" التي يقوم بها في هذه المرحلة، لإصلاح الأمور بين سورية ودول الإقليم والعالم. لكنّ ماست عاد لاحقًا ليؤكد موقفه الرافض لإلغاء القانون. 

ولأنّ مؤسسات الحكومة الأميركية قد دخلت في إجازة (إغلاق حكومي) بسبب عدم الاتّفاق على إقرار الموازنة، فقد أفضت جهود ترامب حتّى الآن إلى إعلان وزارة الخزانة الأميركية تعليق بعض بنود عقوبات "قانون قيصر" على سورية لمدة /180/ يومًا، مع استمرار سريان العقوبات على العمليات المرتبطة بروسيا وإيران (معلوم أن سورية تستورد القمح من روسيا حتّى الآن)، وهو قرار يسمح بنقل السلع والتقنيات الأميركية ذات الاستخدام المدني إلى سورية، مع التأكيد أن معظم هذه السلع يتطلب ترخيصًا خاصًّا، كما أكدت وزارة الخزانة الأميركية أن تعليق العقوبات سيكون جزئيًّا، ولم تعد هناك عقوبات شاملة على سورية.

وقد استخدم ترامب كلّ صلاحياته التنفيذية لأجل تحقيق ذلك في هذه المرحلة على الأقل، وذلك بعد أنْ اعترض العديد من المشرّعين الأميركيين لدى وزارة الخزانة، معتبرين أنّ الوزارة "جهة تنفيذية" تستطيع إلغاء القرارات التنفيذية فقط، لا التشريعية. لذلك، طلب ترامب من الوزارات التنفيذية تخفيف القيود على بعض السلع التجارية، ومع ذلك، اشترطت وزارة التجارة الأميركية على سورية، أن تتوقف عن ممارسة أي تجارة مع روسيا وإيران.

أمّا الملفات الأهمّ بالنسبة إلى إدارة ترامب، فهي ما يخصّ "إسرائيل" تحديدًا، أي ملف الجنوب السوري و"الحرب على الإرهاب" بالتعريف الأميركي - ال"إسرائيلي"، والدخول في "الاتفاقيات الإبراهيمية".

وعلى هذا الصعيد، تفيد المعلومات بأنّ الأميركيين قد أبلغوا دمشق، بواسطة المبعوث الخاص توم براك، وجميع الوسطاء الإقليميين (السعودية وتركيا وقطر على وجه الخصوص) قبل حدوث الزيارة، بأن على السلطة فيها أن تكون جاهزة للتوقيع على الخطة الأميركية الخاصة بالجنوب السوري وضمان مصالح "إسرائيل" فيه.

وهي خطة كانت قد وُضعت في وثيقة معدّة للتوقيع خلال اجتماع بين الشرع ونتنياهو، كان من المزمع حدوثه عندما زارا نيويورك الشهر الماضي لحضور جلسات مجلس الأمن. لكنّ نتنياهو رفض الأمر حينذاك وطالب بإدخال تعديلات على الوثيقة الأميركية، وهي تعديلات تقضي بتقسيم "المنطقة العازلة" في الجنوب السوري إلى أربع دوائر، على أن تفرض "إسرائيل" سيطرتها الأمنية وصولًا إلى مطار دمشق ومناطق صحنايا وجرمانا وريف درعا الغربي وكلّ  القنيطرة، مع فتح ممرّ إنساني من بلدة "حضر" الحدودية في ريف القنيطرة، حتّى قرية "الثعلة" في ريف السويداء، مرورًا بمنطقة "داعل" في ريف درعا عند الحدود الأردنية.

وتفيد المعطيات هنا، أنّ السوريين طلبوا أن تكون الولايات المتحدة هي الضامن لأي اتفاق كهذا، بمعنى أن تقيم واشنطن قاعدة عسكرية جنوبي دمشق، مهمتها مراقبة هذا الاتفاق وضمان عدم حدوث اعتداءات "إسرائيلية" باتّجاه العاصمة أو العمق السوري. وهنا تحديدًا يكمن الخلاف على طريقة إدارة الملف وإخراجه (وليس على الهدف أو النتائج بالطبع)، بين الإدارتين "الإسرائيلية" والأميركية. 

وفي ما يخص العنوان العريض للزيارة، أي ملف الانضمام إلى "التحالف الدولي ضدّ الإرهاب"، فهو أمر تروّج له وسائل الإعلام السورية والعربية الداعمة، باعتباره "نصرًا" للإدارة السورية الجديدة، فهو سيحوّل سورية، برأيهم، من "دولة منبوذة" إلى عضو فاعل في تحالف دولي كبير، وسيوقف تفرّد "قسد" بهذا الملف، ويُضعف موقفها باعتبار أن الحاجة لها لم تعد ماسّة كالسابق.

لكن، وفي المقابل، يرى آخرون أنّ المطلوب من دمشق في هذا السياق، هو أبعد بكثير من محاربة تنظيم ""داعش"" الإرهابي جنبًا إلى جنب مع "قوات التحالف"، بل هو أمر يتعلق أيضًا بمواجهة "الفكر المتطرّف" وأصحابه في الداخل السوري، كما قد يبلغ حدّ قتال المقاومة الإسلامية في لبنان أو التضييق عليها بشكل مباشر.

وفي الحالة الأولى تحديدًا، يعني الأمر أن يتحوّل رفاق الأمس في "الجهاد السوري" إلى أهداف للدولة السورية، خصوصًا أن حلّ ملف "المقاتلين الأجانب" هو أحد الشروط التي تصرّ عليها الإدارة الأميركية حاليًّا، بكلّ ما يعنيه ذلك من احتمال حدوث مواجهة قريبة داخل البيئة العسكرية والاجتماعية الحاضنة للسلطة بسبب هذا الأمر.

ويبدو أن بعض "المنظّرين الإسلاميين" المتشددين المقربين من السلطة، قد استشعروا هذا الخطر، وبدأوا باجتراح الفتاوى التي تتيح التعاون مع جهات دولية خارجية (تُصنّف كافرة في فكرهم) في سبيل المصلحة العليا. والمؤكّد أن هذا الملف تحديدًا، سيتحوّل إلى أزمة كبيرة على السلطة أن تواجهها قريبًا، بكلّ ما قد يحتمله هذا الأمر من تداعيات خطيرة على أمن البلاد والمجتمع، كما ستؤثّر على خطّة "تمكين" السلطة لنفسها أيضًا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد