د. عبدالله عيسى/ كاتب وباحث لبناني
رحل "زاهر الخطيب" صابرًا صامدًا على ثبات عزيمته، "المحامي" الذي احترف الدفاع عن المظلوميّة كأشرف خيار في صيانة العدالة، لم يتوسل المحاماة أداة ارتزاق أو صوت نجاح ضيّق لقضية فرديّة ملتبسة تزوي الحق لحساب أنانيّة تستمد اعترافها من قهر الآخر بما هو آخر، بسلطة الحرفة والمعرفة وتقاليد المهنة وفنونها، من أجل الكسب الرمزيّ أو الماديّ. اعتنق "زاهر الخطيب" المحاماة رسالة، مشبعًا بالثقة حتى تجسّدت بالقبض على قضاياه، وقضاياه مجتمعيّة أمميّة عالميّة ذات نزعة ثوريّة وجذريّة بنيويّة على نبض الشعوب وفي صلب المواجهة للإمبرياليّة والرجعيّة وكل عوامل التفتيت؛ فإذا ما قبل أن يتدرّج نزولًا بات قوميًّا بأوسع معناها، ليجترح "الوطنيّة" من مقاربته الكليّة فلا تستنزفه التفاصيل الصغيرة، ولا تغرقه المكاسب الآنيّة فلا فردانيّة إلا في قيادة "الجماعة" والجماهير.
لم تلوّثه "العصبيّات المتحوّرة" طائفيّة ومناطقيّة وجهويّة وهويّات تتكوثر مع تبدّل الزمان والمكان، بل ظلّله الوطن كجزء من أمة وقضية على مقياس "الإنسان" في عالميّته.
انخراط تام في النضال
كمفكّر، و"مثقَّف عضوي" كما يقول "غرامشي"، وكمثقِّف وقائدٍ يحرّض على القتال، ينخرط بكلّه في قضيّة النضال، نائبًا ووزيرًا يتأبّط ملفّاته الإصلاحيّة بجديّة تشريعيّة وإداريّة في وجه حيتان المال وزعماء المافيا والاحتكار.
ومن هنا تُفك شيفرة العنوان "أمين عام رابطة الشغيلة"، بكل دلالاتها، من الأمانة إلى جدارة حمل المسؤوليّة الشاملة، ومن العمل كمنظّمة نسقيّة تتكامل جهودها، إلى العمّال أو الشغيلة وما يختزنه المعنى من خلفيّة ثقافيّة مكثّفة، على حيّزها المتواضع في عدد المنتسبين.
هكذا تمامًا هو "زاهر الخطيب" حنجرته أعلى من واقعه وإطاره، يسمو بمثابرة رشيقة إلى رحاب المستقبل بعناد بصير.
توسّل "رابطة الشغيلة" منبرًا مفتوحًا، ونافذة على الخطاب السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ من شرفته الوارفة وقاعدته الصلبة، التي لا يغيب عنها الأمل ولا الثقة الحاسمة بوضوح استشرافه له وبضرورة بثّه والإسهام الفعّال في التغيير، وبقناعته القطعيّة بحتميّة صناعته.
تجده عند كل منعطف يعزّ فيه الرجال، يستبسل في ساحات العنفوان بين ندوة برلمانيّة وجلسة حكوميّة وإطلالة متلفزة ووسط الجماهير، يتنقّل بين أهل الكرامة أمميًا دون المذاهب لا يرويه إطار مغلق وهو المنفتح على الدوام ليحمل الراية التي تتصدّر قتال العدو وتؤمن بالعدالة الاجتماعية وتعيد إنتاج موازين القوى الخارجيّة والداخليّة بإباء وعنفوان.
رمز تقمّص "قادة ثوّار الأرض"
غدا "زاهر الخطيب" المفكّر والمفوّه صوتَ الفقراء والمحرومين والمستضعفين والمقاومين والثائرين، وهو المناضل يهدر بين الجماهير تحمله على الأكتاف رمزًا تقمّص "قادة ثوّار الأرض"، من الأنبياء والفلاسفة الكبار إلى تشي غيفارا فجمال عبد الناصر، ومن الإمام الخميني إلى السيد موسى الصدر والسيد حسن نصر الله الذي رأى فيه ملهمًا باعثًا على النهوض والتغيير والتحرير وزراعة الآمال الكبرى وحصادها، إلى أن كسرت شهادة "السيّدين" ظهره، فحمل ألمه وشارك أهل المقاومة العزاء والتهنئة كعهد ووصيّة على الاستمرار.
وهو الثري بالعلاقة ولباقتها ودقتها يدرك معنى المغارم والمغانم، يتصدّى للأولى بجسارة ويزهد عن الثانية، يراقب كيف تتحرّك الاستراتيجيّات والممارسات، مميّزًا بسيفه القاطع بين العدو والصديق، لم يبدّل بندقيّته وإن اختلفت الرايات والقيادات، فتراه ثابتًا على صراط مقاومة الاحتلال والحرمان والفساد.
تجده مواكبًا فاعلًا لحراك المقاومة الفلسطينيّة ومسؤولًا أمام القضيّة، منفتحًا على فصائلها كافة، بحماسة محسوبة بميزان الحكمة والضمير والمبادئ وعلى عقارب الساعة، أما بوصلته العربية فلم تخطئ "حافظ الأسد" وعقيدة الممانعة.
هو المنغمس في فهم الواقع الجيوسياسي وبناه التحتيّة والفوقيّة، وموقع لبنان وسوريا والهلال الخصيب والعالم الإسلامي والعربي وطلّاب الحريّة في الكون، فلا يقف عند حدود الثورة الإيرانيّة وجمهوريّتها الإسلاميّة، بل يصل إلى فنزويلا وما بعد بعد، بل هو مصداق بارز لمقولة "حيث يجب أن نكون سنكون".
لاءاته راسخة في إسقاط كل نسخات اتفاقيّة 17 أيّار القديمة والجديدة، لاءاته هي لاءات العز الدائمة، يقبض على جمرها منارة وشعلة في وجه كل شيطان جائر أو فاسد مستبد أو عدو حاقد.
اسم حركيّ للرجل الشهم الشجاع
رحل "زاهر الخطيب" ظافرًا في التوقيت الصعب، كما جاء بكارزميّته وسط الحرب على لبنان ومخاض الاقتتال الأهلي في التوقيت الصعب، لأنه أدرك أن الحياة للأقوياء في نفوسهم، لأصحاب الإرادة يحفرون دربهم بأظافرهم لو شاؤوا، دون أن يخافوا لومة لائم.
عساه يقول: إن الموت حق، أمّا من تقلّد سيفه، فلا يعرف الموت أو الفناء، فالأمم لا تموت، وأهل المقاومة أرسخ لياقة بالحياة، وحياتهم طيّبة أسمى من غريزة البهائم تجتاح المجرمين والعملاء والقاعدين دون عذر. ولعل توقيت رحيله هو المنبّه للخائبين والمنسحبين على هدير الإبادة وإشاعة الهزيمة في ضمائر تزلزلت وبلغت قلوبها الحناجر فأعادت تموضعها طمعًا بمال أو خشية من عسف السلطان الأميركيّ والإسرائيلي، فترى البعض يستر عورة انحلال إنسانيّته في توجيهه النقد على إسناد المقاومة للمقاومة، وآخر يلتمس الأعذار، وثالث يحرص على التمايز؛ لا بأس فهؤلاء يفتقرون لبوصلة وساعة ونبض "زاهر الخطيب"، فلا عجب.
غدا اسمه اسمًا حركيًّا للرجل الشهم الشجاع في مواجهة الزمن الرديء والصعب. كثيرة هي شواهده في مواقف الرجال التي لا تساوم، ومنها يوم أطلق "مؤتمر إقليم الخروب العربي المقاوم" في إثر حرب تموز 2006، انتخب التوقيت الصحيح في المكان الصحيح ليواجه التحدّي الصحيح؛ جبهة الداخل اللبنانيّ فيكون طليعيًّا ليحفظ هويّة إقليم الخروب "عربيًّا مقاومًا"، وقد قاوم أبطاله على أرضه الاحتلال، وسطّروا مواجهات خالدة، وليحفظ موقع ودور إقليم الخروب في قضاء الشوف، فيقطع الطريق على الفتنة المذهبيّة، ويحول دون استغلاله للعبث بأمن المقاومة، ويضفي على الوطنيّة معناها الأعمق، فالمقاومة عقيدة عابرة للطوائف والمناطق، وثلاثيّة المقاومة والشعب والجيش إبطال مآرب العدو، وهي الترجمة لنداءاته لا للعار لا للذل لا للاستسلام.
لا أنسى يوم حملت له رسالة بأن يصرف النظر عن عقده مؤتمرًا صحافيًّا في منزله، وأن يستبدله بمكان آمن آخر يؤدي الغرض ويفي بالمطلوب بإعلانه موقفه. لكن "زاهر الخطيب" أبى إلا التصدّي لخفافيش أميركا في لبنان، بعد أن أبلغته النصيحة بتوضيح وإقناع، قائلًا إن داري لا يقفل أو نرحل.
كان جوابي له رغم جديّة المخاطر "لك ما تريد"، فكان الحضور مهما كلّف الأمر، وقد وصلته الرسالة، سنبقى معًا في دارك وفي عنادك وسنرسم شارة النصر بإذن الله، وهكذا كان.
رحمك الله فذًّا شجاعًا صلبًا مقدامًا واضح البصيرة، وأبرق سلامنا إلى الأوفياء الكبار، ولا تخفى عليك الأسماء والقامات من أصحاب المواقف والمقاومين الشهداء العظام.