كثير من الأسئلة يطرحها الوثائقي الفلسطيني «فلسطيني على الطريق» للمخرج إسماعيل الهباش، الذي تم عرضه الأول في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ (46)، حيث يتتبّع الهباش مسيرة السيد المسيح من الناصرة وصولاً إلى القدس، ليقوم المخرج بنفسه بهذه الرحلة الطويلة والوعرة، لتبدو المقارنات الدائمة بين نضال المسيح وإيمانه بفكرته في مواجهة الرومان واليهود في زمنه، وبين الفلسطيني اليوم، وقد أصبح الطريق أكثر قسوة ودموية، وكيف لم يتغيّر شيء بعد أكثر من ألفي عام، وكيف ــ وجاء هذا التساؤل في الفيلم ــ كيف سيكون حال المسيح لو جاء اليوم؟ لتأتي الإجابة بأنه سيكون بالتأكيد أول الثوار.
الرحلة
تبدأ المسيرة التي قام بها الهباش بداية من الناصرة وتمتد إلى جنين وبرقين وسبسطية ونابلس وبيت لحم، وصولاً إلى القدس، ولكل من هذه المدن طبيعتها وحكاياتها وناسها، ولكنها تتفق في كونها محاصرة ومُحتلة وتعاني من الحواجز والأسلاك والجنود وطلقات الرصاص، إضافة إلى التشويه المتعمّد للمكان ومحاولة إخفاء، أو القضاء بمعنى أدق على الذاكرة، لكن أحجار البنايات تشهد، والدروب الضيقة تحكي تفاصيل تاريخها.
سلام
(سلام) هو اسم زوجة الهباش، التي رحلت مؤخراً، لكن الرجل يستحضرها معه في الرحلة، ويحكي عنها ولها عما كان وحدث، وعما هو كائن اليوم، حتى إنه يقوم بزيارة منزل عائلتها، ليت
عرّف عليه بعض الجيران بعد عناء، فالمكان شبه مهجور، فعائلات بأكملها تفرّقت، وتم القضاء المُمَنهج عليها وعلى مأواها وبيتها وحياتها، الكثير رحل والأكثر مات على هذه الأرض.
الشهداء
لا يقدم الهباش الصورة النمطية للشهداء، فليس الشهداء فقط هم مَن يحملون سلاحاً في وجه العدو الصهيوني، ولكنهم الناس العادية، الذين يعملون أي شيء بعيداً عن مواجهات الرصاص. فيمر على مسرح في (جنين) كان من رواده قبل سنوات تمتد لعشرين عاما أو أكثر، هذا المكان الذي تم إغلاقه لسنوات، وتم افتتاحه من خلال أحد رفاق دربه، وعندما وجد الرفيق قِفل الباب الصدأ يمنعه من الدخول، أطلق عليه الرصاص ليتمكن من فتح الباب، هذا الرفيق تم سجنه لسنوات وخرج مؤخراً في صفقة الأسرى الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2025. ورفيق آخر كان يقوم بتدريب الممثلين، هذا تم اغتياله، وهو الروح المؤثر لهذا المكان وهؤلاء الذين يواجهون ما يحيونه بالفن. وشيء آخر لافت في هذا المكان، أنه تم اقتطاع مساحة كبيرة من أرض المسرح ـ الذي يسعى القائمون عليه الآن لتجديده ـ ليصبح مقابر للشهداء، حديقة خلفية كبيرة أصبحت تحمل شواهد القبور، وأصبحت اسماء أصحابها تطل على الممثلين وكأنها جمهورهم الوحيد.
الباب
حكاية أخرى تقترب من الفانتازيا تخص أحد السكان، وقد تم بناء الجدار وهو في مكان، بينما عائلته في الجهة الأخرى ـ أشبه بسور برلين ـ وبعد مفاوضات ليتمكن من الذهاب إلى العمل، تم صنع باب ضخم، ومع الرجل مفتاح يستخدمه عند المرور كل يوم مغادرة وعودة! هنا ينتفي المنطق تماماً، باب ضخم ينتصب ليغلق الطريق، وبالطبع هناك مواعيد محددة لفتح الباب أو غلقه!
الصهيونية الناعمة
يصل الهباش إلى بيت ضمن البيوت الكثيرة التي تم احتلالها من قِبل اليهود ـ يقول المخرج بعد العرض إنه كان يتمنى ألا يُسمح له بالدخول وينتهي الأمر ـ فترحب امراة عجوز بالرجل/المخرج ورفيقته، ليبدو أن المرأة تحمل قدراً من الثقافة، حيث الكتب واللوحات، وما شابه من مفردات المكان التي تنبئ عن أصحابها. وتتفاعل المرأة بالفعل وفي هدوء مع زائريها. ولكن بسؤالها عن أصحاب البيت الأصليين، وكيف سيكون موقفها إذا ما عاد أصحابه للمطالبة بحقهم في البيت؟ كان ردّها مراوغاً ويتنافي مع المنطق ـ للمرأة منطقها الخاص بالطبع ـ فتقول إنها وأجدادها من براغ، وجاءت بعد الحرب العالمية الثانية إلى فلسطين، فهل بعد كل هذا العُمر، وحيث كان لها ولعائلتها بيت هناك، هل بعد كل هذا يمكنها العودة والمطالبة بالبيت؟ بالطبع هذا الأمر لا يعدو منطقياً. وتضيف.. أنها لا يمكن أن تتنازل عن هذا البيت الرائع، حيث التصميم الجميل والجو الأجمل، فهي تفضل الموت عن المغادرة، وستموت هنا!
ليصبح النقاش بعد ذلك بين المخرج ورفيقته، أن المرأة تمثل فكر اليسار الإسرائيلي، الذي للأسف يعوّل عليه الفلسطينيون ـ بعضهم ـ الكثير، ولكنهم وجه آخر من الصهيونية، أطلق عليه المخرج.. الصهيونية الناعمة.
فلسطين الحقيقية
من أفضل سمات «فلسطيني على الطريق» أنه أتى بفلسطين الحقيقية على الشاشة، بعيداً عن المشاهد المعهودة عن الأرض المحتلة، من مواجهات دامية، وكَر وفر، وآليات عسكرية، ودماء. فللمرّة الأولى التي نرى فيها الناس والأرض، ومدى هذا الجمال الطبيعي الذي تتمتع به فلسطين.. هضاب، سهول، أنهار، مساحات خضراء، بيوت متراصة بين الزهور، والأهم.. أطفال يلعبون، ويبتسمون إلى كاميرا التصوير. ربما كل هذا الجمال يوضح أكثر طبيعة المعاناة التي يعيشها الناس هناك، وكيف يجب الاستمرار في النضال الحقيقي ومشاركتهم ما يعيشونه ويتحملونه حتى يستمروا في الحياة.