اوراق خاصة

الصبر الاستراتيجي في دائرة الصراع.. هدف أم تكتيك؟  

post-img

إيهاب شوقي/ كاتب مصري

التصق مفهوم الصبر الاستراتيجي بالمقاومة ضد العدوان والاستعمار بسبب فوارق القوة وعدم تكافؤ الجوانب المادية، ما يحتم التعويض بالفوة الروحية وأدواتها لتشكيل التوازن وامتلاك الردع.

من هذه الجوانب الروحية التي تعوض فجوة القوة، يأتي الإيمان والعقيدة الراسخة، بما تحتويه من أركان تضم البصيرة والشجاعة والتضحية والفداء. وعلى رأس هذه الأركان يأتي الصبر كونه اختبارًا كبيرًا لذوي الإيمان والعزم والمصداقية.

الصبر، في مفهومه السلوكي، يعني الحبس أو المنع او التحكّم في النفس عند الغضب أو الاندفاع والتهور. في الشرائع الدينية يتعلق بكبح جماح النفس عن الجزع عند المصائب، وكذلك بارتكاب المعاصي، وبتقوية النفس على تحمّل الواجبات والتكليفات.

في المفهوم العسكري؛ لا يبتعد الصبر عن مفهومه السلوكي والديني، ويشمل الثبات والصمود والحكمة والتروي وعدم الانجرار إلى الفخاخ.

عندما يقترن مفهوم الصبر بالاستراتيجية ليصبح "صبرا استراتيجيا"، فإن المفهوم يتسع ليضم أبعادًا أخرى تضبط هذا الصبر، وتضع له شروطا، كأن يتسم بالانتظار المدروس والمشروط بعدم التخلي عن الأهداف الاستراتيجية، وأن يكون الصمت رهانًا على الوقت وتفاعلاته ومدى خدمتها لأهداف بعيدة المدى ومدى ضررها على العدو، وكذلك استثمار الوقت في الإعداد للردع والدفاع وامتلاك القوة.. والأهم هو تفويت الفرص على العدو لتحقيق نصر استراتيجي مهما حقق من مكاسب تكتيكية ضيقة.

في هذا السياق؛ نحن بحاجة، أيضًا، إلى إلقاء الضوء على مفهوم النصر الاستراتيجي في مفهومه العسكري. وهو ما عرفته العلوم العسكرية بأنه تحقيق الهدف الاستراتيجي بمعزل عن الخسائر والتضحيات، وبالنسبة إلى القوى الغازية هو كسر إرادة المقاومة وانتزاع إرادة القتال والفوز بالاستسلام، أما بالنسبة إلى القوى المقاومة فهو إفشال هجمة العدو والغرض الاستراتيجي منها؛ أي إن هناك مكاسب تكتيكية مثل انتزاع بعض الأراضي أو تدمير بعض القوة العسكرية أو البشرية، من دون تحقيق الهدف الاستراتيجي المتعلق بتكريس هذا الوضع مع الزمن أو زعزعة عقيدة المقاومة أو تصفيتها، وهو ما يترجم إلى فشل القوة الغازية الاستراتيجي.

في المقابل؛ هناك خسائر تكتيكية في الموارد البشرية وبعض القوة العسكرية، ولكن هناك احتفاظ بثوابت المقاومة وعقيدتها وبسلاحها وقدرتها على الترميم واستعادة المبادرة، وهو ما يعني انتصارًا استراتيجيًا لحركات المقاومة. هنا يتضافر مفهوم الصبر مع مفهوم النصر الاستراتيجي، ليعطي مفهوم الصبر الاستراتيجي ويكسبه سماته، والتي يمكن إيجازها بعبارات مختصرة كما يلي:

1.    الصبر الاستراتيجي هو انتظار مدروس ومخطط لتوقيت ملائم وعدم الانجرار لمعركة بتوقيت العدو.

2.    الصبر الاستراتيجي هو رهان على وقت يُستغل للبناء والإعداد مع مراقبة تأثير الوقت في العدو، وهل يصب في مصلحته أم يشكّل ضغطًا عليه وخسائر عنده، واتخاذ القرار وفقا للتقويم العام لعامل الوقت ولحظة التخلي المناسبة عن خيار الانتظار؛ إذا ما بدا أنها تشكّل ضررًا استراتيجيًا.

3.    الصبر الاستراتيجي لا يعني التخلي عن الثوابت، ولا يعني الاستسلام ولا السماح بكسر معادلات التوازن الاستراتيجي، إنما يعني إمكان الصبر على كسر بعض قواعد الاشتباك والصبر على تراجع بعض المعادلات ما لم تتخطَّ النطاق التكتيكي، والذي يمكن التفرقة بينه وبين النطاق الاستراتيجي بالنظر الى الهدف؛ وهل يمثل كسرًا للإرادة أو تصفية للمقاومة أم محاولة استفزاز وجرّها إلى معارك في توقيتات خاطئة.

4.    الصبر الاستراتيجي مفهوم شامل لأبعاد الصراع وأدواته كلها، فهو يتلافى، أيضًا، الوقوع في أخطاء وفخاخ وفتن يسعى العدو فيها إلى استنزاف حركات المقاومةا، مثل حرف الصراع الرئيس بين المقاومة والعدو إلى صراعات بينية داخلية بين المقاومة والشعوب، أو حروب أهلية تبقي العدو بعيدًا عن الاستنزاف، فمن الحكمة تفويت الفرص على الانجرار لهذه الفخاخ، وهذا ثبات على البوصلة الاستراتيجية وواحد من أكبر مصاديق الصبر الاستراتيجي.

5.    الصبر الاستراتيجي يراعي التخطيط الاستراتيجي على مستوى ميزاته؛ من حيث المرونة التكتيكية والرؤية الشاملة، ومن حيث أدواته المتعلقة بترميم الخسائر والاستثمار في الأدوات الاستراتيجية على المستويات التعبوية البشرية، بتثبيت العقيدة والروح المعنوية والتسليحية بالحفاظ على الأسلحة الاستراتيجية وأدوات الردع.

باختصار شديد، الفارق بين المهادنة والاستسلام من جهة وبين الصبر الاستراتيجي، يكمن في الإرادة وما تقود إليه من تمسك بالثوابت أو تخلٍ عنها. ويكمن في الاستعداد والجهوزية للتضحية إذا ما فرضت المعركة وانتهكت الخطوط الحمراء، ويكمن في الحفاظ على مكامن القوة؛ وهل يفرّط بها أم الحفاظ عليها في مؤشر ذي مصداقية عن إرادة القتال.. أي إن الفارق بين المهادنة والاستسلام وبين الصبر الاستراتيجي هو أن المهادنة تقود إلى تحقيق هدف العدو الاستراتيجي، بينما الصبر الاستراتيجي يقود إلى إفشال هدف العدو، وتاليًا تحقيق النصر الاستراتيجي.

المراقب، اليوم، لــ"حزب الله" وسط هذا الحصار من أكبر إمبراطورية في التاريخ، وهي أميركا وكلبها الصهيوني العقور والمحيط المتواطئ والمهادن للعدو والقوى الداخلية غير المتفقة على خيار المقاومة، يرى مصداقا لهذا الصبر الاستراتيجي. إذ يصبر الحزب على الانتهاكات وتراجع بعض المعادلات؛ ولكنه يحتفظ بسلاحه وعقيدته وإرادة القتال، ويحتفظ بجمهور المقاومة الصابر والجاهز دوما لتقديم التضحيات ورفض المذلة.. وهي مرحلة من الصبر الاستراتيجي والصمود سيتم التأريخ لها بكونها حربًا في حدّ ذاتها؛ مثل الحروب التي خاضها الحزب وخرج منها بانتصارات استراتيجية كبرى.
 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد