حسن نعيم/ كاتب وروائي
تحكي رواية "وادي الفراشات" للعراقي أزهر جرجيس مأساة "عزيز عواد" طالب المرحلة الثانوية، والذي يحلم بالدخول إلى كلية الطب، لكن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر. إذ إن معدله العام، في شهادة البكالوريا، لم يتجاوز ٦٣ من المئة، وهو "معدل لا يؤهله حتى لدخول الحمام"، على حد تعبيره ، الأمر الذي دفعه إلى الالتحاق بكلية الفنون قسم المسرح.
هناك كانت تهفو نفسه إلى تعرّف الفتيات الجميلات، وما كان أسرع أن استجابت الأقدار إلى أمانيه، وقذفته باتجاه "تمارا" الجامعية الفاتنة التي بادلته الحب وطارحته الغرام، بعد أن أغرقها برسائل العشق المفعمة بأشعار السيّاب ونزار قباني "دعيني أنادي عليك بكل حروف النداء.. لعلّي إذا ما تغرغرت باسمك، من شفتي تولدين.. ، دعيني أؤسس دولة عشق، تكونين أنت المليكة فيها، وأصبح فيها أنا أعظم العاشقين.. دعيني أقود انقلابا يوطد سلطة عينيك بين الشعوب.. دعيني أغير بالحب وجه الحضارة."
سقطت "تمارا" في فخ غزليات عزيز كغزالة شاردة في شباك صياد ماهر، لكن حبيبة قلب عزيز، والذي يركن في القاع الاقتصادي والاجتماعي من بغداد، تنتمي إلى الطبقة الميسورة ماليًا، ومن المستحيل أن يقبل أبوها به عريسًا لابنته الجامعية الجميلة. وبالفعل لم تلق كل محاولاته للتودد من أبيها إلا صدودًا، غير أن عزيز العاشق الولهان لم يقنط؛ فعاود الكرة فور تعيينه في الإذاعة موظفًا مسؤولًا عن الأرشيف براتب شهري لا يكاد يسد الرمق، ما اضطر الأب للموافقة على تزويجه بعدما لمس تعنت ابنته وإصرارها على الاقتران به.
يتم الزواج؛ وينتقل العريس المترصن عزيز بعروسه إلى بيتهم الجديد الأشبه بخرابة، منزل تتلاعب بنوافذه الرياح وتغرقه الأمطار عند أول شتوة، الأمر الذي أصاب الزوجة مربى الدلال بإعياء وأمراض أدت إلى إجهاض جنينها، فتعود إلى منزل أهلها الذين هالهم ما أصاب ابنتهم من أعراض الآلام والأوجاع وجشوبة العيش. يعرض عليه الأب السكن في أحد دوره؛ فيرفض بتعال وعنفوان، ويعدّ هذا العرض مهينًا لرجولته وكرامته.
ينتقل بزوجه إلى منزل آخر، ليس أفضل من الأول بكثير، وما أن استقر في المنزل الجديد حتى طُرد من العمل لسبب تافه لا علاقة له به، فيشغّله خاله جبران معه في متجر الكتب الذي يطل على ساحة التحرير من جهة شارع السعدون. لكنّ حظه العاثر يلقي به في السجن بعد أن وجدت دورية للأجهزة الأمنية كتاب "جمهورية الخوف" على رفوف المكتبة. بعد أن يخرج من السجن؛ يعطيه خاله جبران سيارته ليعمل عليها سائق أجرة، ويضطر إلى بيع عقاره الذي يعتاش على إيجاره كي يخرج هذا المنحوس ابن أخته من السجن، بعد أن ألقت الشرطة القبض عليه بتهمة مخلّة بالآداب.
يلاحق النحس وسوء الطالع عزيز؛ فيطوح به في وادي الفراشات، وهو عبارة عن مقبرة يواري فيها درويش يدعى "بدري النقاش" الأطفال اللقطاء والمنبوذين، ويمنحهم أسماء لا يلبثون أن يحملوها ويطيروا بها إلى عالم الأرواح كفراشات مضيئة ترمز للجمال الذي يولد من الألم، وإلى التحول والولادة الجديدة، وإلى الأمل الذي يرفرف حتى في أحلك الظروف.
"الموتى لا يغادرون تمامًا، إنهم يتحولون إلى فراشات تحوم حولنا، تذكرنا بما فقدنا وبما يجب أن نحميه".. يستمر عزيز في عمله سائق توابيت؛ حتى تلقي الشرطة القبض عليه بتهمة الاتجار بالأعضاء البشرية، تتوالى النكبات على عزيز، فيفقد ابنه وتصر زوجه على طلب الطلاق منه: "كن رجلًا لمرة واحدة في حياتك وطلقني .." .
"وادي الفراشات" رواية بغداد، من العام ١٩٩٩ إلى العام ٢٠٢٤، هي رواية العراق بفقر شعبه وضياع أبنائه واضمحلال فرص العمل واحتضار تراث من أغنى أنواع التراث في العالم.
غير أن احتفاء القراء والنقاد برواية "وادي الفراشات"، والصادرة عن الرافدين ووصولها الى اللائحة القصيرة بجائزة بوكر في العام ٢٠٢٥، لا يعفيها من بعض الشوائب السردية؛ مثل تغييب الأحداث السياسية الكبرى التي ألمت بالعراق بعد العام ٢٠٠٠، مثل الغزو الأمريكي في العام ٢٠٠٣ والمقاومة الشعبية والعنف الطائفي في البلد الواحد..
هذه الأحداث كان يفترض أن تشكّل الخلفية السياسية للمشهد الاجتماعي والاقتصادي الذي قام عليه عراق ما بعد العام ٢٠٠٠ ، كما أن تراكم هذا الكم الهائل من الأحداث المأساوية التي صبت على رأس عزيز بدا مفتعلًا وغير واقعي، فلا تكاد تغيب مصيية حتى تبرز أخرى أشد وطأة وأكثر إيلامًا. كما أن عمل خريج جامعي سائق سيارة أجرة وناقل توابيت وتشرّده مع زوجه ابنة البيت الميسور ومربى الدلال في بيوت أشبه بخرابات من دون أي محاولة جدية وحاسمة من ذويها لإنقاذها من هذا الزيجة الورطة ورفض زوجها لأي مساعدة تحت ذريعة العنفوان وعزة النفس يبدو أمرًا غير منطقي لشخصية كشخصية عزيز عانت من شظف العيش، فأمست ترتاد الخمارات وتعتاش على فتات ما يجود به خاله جبران فقير الحال.. فهل كان الكاتب "أزهر جرجيس" يسرد من خلال مقادير الفرد العراقي أقدار الشعب العراقي برمته، وهل كان يؤشر من مآله في مقبرة وادي الفراشات، إلى مآل العراق وما أصابه من نكبة جماعية قذفت بشريحة من الشعب خارج الوطن، وأبقت على القسم الآخر في منفى داخلي لا يقل اغترابًا وقسوة عن المنافي الخارجية؟
الكلام الآنف لا ينبغي أن يشيح النظر عن أهمية الرواية ولغتها الرشيقة الساحرة والطريفة ورؤيتها التي تشكّل صرخة وجيعة وإدانة ساخرة للأوضاع السياسية والإجتماعية التي سادت في العراق، بعد العام ١٩٩٩ وحتى العام ٢٠٢٤ بلغة طيّعة إنسابية، إنسانية، خفيفة الظل، وظفّت الرمز المقبرة لتحكي قصة وطن يدفن أحلام أبنائه كما يدفن الأطفال والمهمشين تحت التراب من دون أسماء.
هكذا يقدم صاحب رواية "النوم في حقل الكرز" ورواية "صانع الحلويات" العراق كما يراه لا كما يتمناه، كما هو على أرض الواقع، لا كما يحلم به وطنا عزيزا لكل أبنائه الغرباء المشردين على أرصفة المنافي.
"في هذا الوادي، كلنا غرباء، والغرباء يا صديقي لا يسألون عن الماضي؛ لأن لكلٍ منا ماضٍ لا يرغب في تذكره."