رضا صوايا (صحيفة الأخبار)
في بلد تسرح فيه المافيات من كل صنف، لم يسلم حتى العسل من منظومات الغش والاحتكار. فخلف واجهة «المنتج الطبيعي» تختبئ شبكات تتحكم بالسوق، تخلط وتزوّر وتحتكر، فيما يُترك المربّون الحقيقيون لمصيرهم في بلد تسرح فيه المافيات من كل صنف، لم يسلم حتى العسل من منظومات الغش والاحتكار. فخلف واجهة «المنتج الطبيعي» تختبئ شبكات تتحكم بالسوق، تخلط وتزوّر وتحتكر، فيما يُترك المربّون الحقيقيون لمصيرهم
للمرة الأولى، تتجه وزارة الزراعة إلى إصدار قرارات تنظيميّة لقطاع تربية النحل في لبنان، تمهيداً لإعداد مشروع قانون شامل يُعيد ضبط هذا القطاع المتفلّت. ورغم أن الخطوة تبدو بديهية لتحديد حقوق مربّي النحل وواجباتهم، إلا أنّ أهميتها تتجاوز الجانب الإداري، نظراً إلى المخاطر الصحيّة الكبيرة التي يتعرّض لها المستهلكون نتيجة الفوضى السائدة. فالتنظيم المرتقب يهدّد منظومة واسعة من المصالح والكارتيلات والمهربين الذين يُغرقون السوق بمنتجات سامة تُسوَّق على أنها عسل.
في هذا السياق، شكّل وزير الزراعة نزار هاني في نيسان الماضي «اللجنة الوطنية الفنية العليا لتطوير قطاع تربية النحل وإنتاج العسل»، والتي تضم سبعة أعضاء من الخبراء في تربية النحل والثروة الحيوانية. ومنذ تشكيلها، عقدت اللجنة، بحسب رئيسها رائد زيدان، «لقاءات موسّعة شملت كل المؤسسات النحلية في لبنان، ولم تستثنِ حتى أصحاب متاجر بيع لوازم النحل. وقدّم الجميع ملاحظاتهم واقتراحاتهم التي أخذناها في الحسبان»، مشيراً إلى أن «النص بات جاهزاً وسنرفعه قريباً إلى وزير الزراعة».
القرارات المرتقبة، وهي الأولى من نوعها في هذا المجال، ستشكل المرجعية الأساسية الناظمة للقطاع. إذ إنها تغطي مجموعة واسعة من التفاصيل، أبرزها: تحديد مواصفات العسل ومدة صلاحيته، وضع شروط واضحة يجب توافرها في النحّال المؤهّل، تنظيم المسافات بين المناحل، السعة الرعوية، تحديد المسافة الفاصلة بين خلايا النحل والمنازل المأهولة، إضافة إلى ضبط عملية استيراد الملكات من الخارج، وغيرها من الجوانب الدقيقة المرتبطة بالإنتاج والجودة والسلامة.
في الظاهر، تبدو القرارات التنظيمية عادية، إلا أن تبعاتها ومفاعيلها، في حال تنفيذها بدقة، ستكون كبيرة وذات ارتدادات واسعة على أكثر من مستوى. ويشير زيدان إلى أنّ «أقلية من التجار، لكنها نافذة جداً، تسعى بكل قوتها إلى منع صدور هذه القرارات، ووصل الأمر ببعضهم إلى عرض محفّزات شخصية عليّ». ويصف هذا القلق بأنّه «مفهوم، بعدما استحوذت هذه الفئة طوال السنوات الخمس عشرة الماضية على جزء كبير من حقوق مربّي النحل، وصاغت دفاتر شروط وعروضاً مفصّلة على قياس مصالحها»، حتى بلغ الأمر «في إحدى الحالات حدّ تحديد لون القناع الذي يرتديه مربّو النحل، فقط لأنه متوافر لدى تاجر معيّن»!
ويقدّر زيدان «نسبة العسل المغشوش في السوق اللبنانية بما لا يقل عن 70%، ما يعرّض المستهلكين لمشكلات صحيّة خطيرة، في حين لم تتجاوز نسبة الإنتاج المحلي 30% في العامين الماضيين». ويلفت إلى أنّ «تحديد الصلاحية الزمنية للعسل كان من أبرز البنود المثيرة لاعتراض عدد من التجار، بعدما حدّدت اللجنة صلاحية العسل بعامين فقط، كونه يفقد أنزيماته الأساسية بعد نحو 18 شهراً».
وهنا، كما يقول، جوهر المشكلة: «بعض التجار يستوردون المحلول السكري تحت مسمّى المتممات الغذائية. وبعد مرور خمس سنوات، وبحكم التفاعل الكيميائي، يمرّ هذا المحلول في المختبرات على أنه عسل حقيقي نتيجة تحوّل الفراكتوز إلى فراكتوز وسكروز وغلوكوز، ويطرحونه لاحقاً في الأسواق على أنه عسل».
لكن المواجهة الأكبر مع المستوردين يُتوقع أن تظهر في المرحلة التالية، إذ ستتناول المرحلة الثانية التي ستلي صدور القرارات التنظيمية «لوازم تربية النحل وتحديد مواصفات استيراد الشمع والأدوية والمحلول السكّري». ويتوقّع زيدان أن يشمل النزاع أيضاً قطاع شركات المبيدات، الذي يعمل منذ سنوات في ظل تفلّت كبير وخارج أي ضوابط، ما ينعكس سلباً وبشكل خطير على صناعة العسل.
ويشير إلى أنّ القرارات التنظيمية «ستمنع استخدام المضادات الحيوية في تربية النحل، وستحظّر استخدام المبيدات الكيميائية خلال موسم الإنتاج، لأن هذه المواد تتبخر داخل الخلية حيث الرطوبة مرتفعة، فيمتصّها العسل ويستهلكها الإنسان، ما يسهم في تطوّر الأمراض السرطانية».
كذلك، ستطاول القرارات فئة واسعة من منتحلي صفة مربّي النحل الذين استفادوا من الفوضى لتسجيل آليات مثل الـ«رابيد» والـ«ميني فان» باستخدام أوراق صادرة عن بعض المخاتير تفيد بأنهم مربّو نحل. ووفقاً لزيدان، «سيُلزم القرار كل مربّي نحل بالتسجيل في السجل الزراعي، ويكفي امتلاك خلية واحدة للتسجيل، لكن للحصول على صفة نحّال أو على ترخيص سيارة يجب أن يملك ما لا يقل عن 25 خلية نحل، وأن يشارك لثلاثة أيام في دورات تدريبية لتربية النحل في المصالح الإقليمية».
وفيما يراوح عدد مربّي النحل المسجّلين بين 7 و8 آلاف شخص، إلا أن الرقم الفعلي لا يتجاوز 4800 مربٍّ فقط. ويواجه القطاع تحديات كبيرة دفعت مربّي النحل إلى التحرّك في المدة الماضية للمطالبة بـ«توفير مراع وحماية الأراضي المصنّفة زراعية التي تتعرض للاعتداء والبناء العشوائي، إضافة إلى المطالبة بالاستفادة من المشاعات». ويشدّد نائب رئيس نقابة مربي النحل في الجنوب حسين جرادي على أهمية «حماية الأشجار، ولا سيما السنديان، من الاستخدام العشوائي للمبيدات» ما يؤثر في دورة حياة النحل وإنتاج العسل.
وشهد إنتاج العسل في لبنان تراجعاً ملحوظاً في العامين الماضيين، بفعل الهجوم العمراني وآثار الحرب الإسرائيلية. ويشير جرادي إلى أن «الجنوب فقد ثلث قدرته الإنتاجية، سواء بسبب القصف المباشر أو الانفجارات القريبة من بعض المناحل، بالإضافة إلى القصف الفوسفوري في بعض المناطق». وتكشف المصادر أن هناك نحو 57 ألف قفير نحل في لبنان، مع معدل إنتاج وسطي يقارب 10 كيلوغرامات لكل قفير، فيما سجّل العام الجاري إنتاجاً متوسطاً يبلغ حوالى 3 كيلوغرامات لكل قفير.
تجارة الملكات وضرب أصالة العسل
كشف رئيس اللجنة الوطنية الفنية العليا لتطوير قطاع تربية النحل، رائد زيدان، عن وجود «تجارة ملكات نشطة وكبيرة جداً في لبنان، يحقق منها المستوردون أرباحاً كبيرة»، مشيراً إلى أن هذه التجارة أسهمت في ضرب أصالة العسل اللبناني. ويوضح أنه «لم يتبق سوى 18% من الملكات الأصلية من سلالة النحل السوري التي تعيش في لبنان». وأشار إلى أن الخطورة تكمن في أن الملكات المستوردة «ليست فقط مهددة لأصالة العسل، بل إن 85% منها غير صالحة أو تموت، أما البقية فقد تؤثر سلباً في النحل المنتج إذا كانت مصابة بأمراض معينة».