اوراق مختارة

«مبادرة غربال» تُسجِّل فروقات شاسعة بين الكميات المُستلَمة والمُوزَّعة: أين اختفَت مساعدات الحرب؟

post-img

راجانا حمية (صحيفة الأخبار)

في ذروة الحرب الطاحنة التي شنّها العدو الإسرائيلي قبل عام، تدفقت المساعدات الإنسانية إلى لبنان، ومرّت بغالبيتها عبر القنوات الرسمية. إذ تلقت الهيئة العليا للإغاثة النسبة الأكبر منها، قبل تحويلها إلى جهات أخرى، منها: لجنة الطوارئ الحكومية التي تشكلت في الحرب لمواكبة احتياجات النازحين تحديداً، وزارة الصحة، وزارة الشؤون الاجتماعية وبدرجة أقل مجلس الجنوب.

انحصر تدفق المساعدات بفترة زمنية محدودة، وكان يفترض أن يكون لوصوله في تلك الفترة الحرجة بالغ الأثر في التخفيف من ثقل النزوح. لكن، ما حصل على الأرض لم يكن على قدر التطلعات، من النقص في البيانات الرسمية، وصولاً إلى آليات التوزيع وعدم تقديم المساعدات اللازمة في أماكن، مقابل إغراق أماكن أخرى بما يفوق احتياجاتها.

هذا الواقع كان نقطة الانطلاق في إعداد التقرير الذي تطلقه «مبادرة غربال» اليوم، والذي تضع فيه المساعدت المعلنة رسمياً «تحت المجهر»، وتُحلّل آليات استلامها وتوزيعها بالاستناد إلى المعلومات المتاحة والبيانات المنشورة على مواقع الجهات المعنية، وما يضاف إليها من معلومات جمعتها من تلك الجهات وفقاً لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات.

بيانات متناقضة

رغم تشعّب الجهات المعنية، إلّا أن ما يجمع بينها كان سوء التنظيم والتناقض إلى حدِّ الانفصام عن الواقع. بدا ذلك جلياً، وفقاً للمبادرة، في المعلومات التي تمّ جمعها من كل هذه المصادر، والتي عكست تعارضاً واضحاً في أرقام المساعدات المُستلمة وتلك الموزعة، وكذلك في آليات التوزيع وفي وحدات القياس المستخدمة، «ممّا حدّ من القدرة على إجراء تحليلات دقيقة أو مقارنة موثوقة بين الكميات المرسلة والموزعة».

وإن كانت لجنة الطوارئ الحكومية قد أظهرت درجة عالية من الاتّساق الداخلي، إلّا أن عملها لم يسلم من الشوائب، إذ أظهر تحليل بيانتها «غياب التواريخ الواضحة للاستلام والتوزيع وعدم ربط البيانات بالاحتياجات الفعلية أو أولويات الاستجابة».

أما الهيئة العليا للإغاثة، فكانت الأكثر فوضوية، إذ غلب على بياناتها عدم التطابق بين معلومات الاستلام والتوزيع. أما مجلس الجنوب، فكان أقل انخراطاً في العملية نتيجة ضآلة المساعدات التي وصلت إليه. ورغم ذلك، لا تظهر البيانات التي تم تحليلها أي شفافية، فهي لم ترفق بأي معلومات عن الجهات التي استفادت منها، فيما اكتشفت «مبادرة غربال» أن نسبة من هذه المساعدات لم يتم توزيعها، وهي لا تزال في المستودعات، بلا أسباب واضحة.

أما وزارتا الصحة والشؤون الاجتماعية وغيرها من الجهات كـ«الصليب الأحمر»، فكانت أكثر انسجاماً مع الأدوار التي تختص بها، مع الإشارة إلى غياب المعلومات الدقيقة عن الكميات المستلمة، في بعض الأحيان.

في الخلاصة، لم تكن الجهات المعنية منسجمة مع بعضها، وكان التباين واضحاً، إلى حدِّ أنه لم يكن ممكناً التوافق على رقمٍ موحّد، بين ما وصل من مساعدات وما وُزّع على الناس.

لا تطابق بين الاستلام والتوزيع

لا أرقام دقيقة للمساعدات التي وصلت، وهو ما ينطبق أيضاً على قنوات التوزيع، فيما لا تفسيرات رسمية لذلك حتى الآن. وقد ردّت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على «مبادرة غربال» بأن «البيانات المتعلقة بإدارة وتوزيع المساعدات لا تزال ضمن مرحلة التحقيقات وتتسم بطابع السرية».

لكن الواضح أن الجهات المعنية مع الملف بفوضوية وعشوائية وانتهازية. والهيئة العليا للإغاثة أكثر الجهات ضلوعاً في ذلك، ولا سيما أنها القناة الحكومية التي استلمت 90% من إجمالي المساعدات المسجلة. فوفقاً للبيانات التي توافرت لـ«مبادرة غربال»، بلغت كمية المساعدات التي وصلت عبر الهيئة 2.55 مليون وحدة من أصل 2,806,744 وحدة تسلمتها مع لجنة الطوارئ الحكومية ومجلس الجنوب.

وزعت الهيئة من هذه الكميات على هيئات أخرى، ومنها 1,051,185 وحدة على اللجنة، و667,694 وحدة على وزارة الصحة و12,644 وحدة على «الصليب الأحمر» وأطراف أخرى. اللافت أن رقم الهيئة لم يتطابق مع رقم اللجنة، التي قدرت ما وصل إليها من الأولى بـ 231,694 وحدة فقط!

هذا التناقض ينسحب على الكميات الموزعة على النازحين أيضاً. فوفقاً لـ«مبادرة غربال»، تمّ توزيع 2,336,729 وحدة فقط، أي بفارق 470,015 وحدة (16.74%) عن المساعدات المُستلمة. في المقابل، تُظهر الجداول أن ثمة مساعدات تمّ توزيع كميات منها، تفوق تلك المستلمة. فمثلاً، استلمت الهيئة من تركيا 139,127 بطانية وزعت منها 167,511 بطانية، أي إنها وزعت 120% من المساعدات المُستلمة!

وعلى هذه الشاكلة، فروقات كثيرة بالزائد، بين ما استلم من المصدر أو ما استلم من أصناف من جهة، وما تم توزيعه من جهة أخرى، وصل في أحد الفروقات إلى 255%! وفي مساعدات أخرى، تظهر البيانات أن غالبية المساعدات لم يتم توزيعها. إذ تسلمت الهيئة مثلاً 2,016 فرشة من تركيا، وزعت منها 57 فرشة، أي 2.8% فقط، فيما استلمت ألفَي خيمة، وزعت منها منها 20 خيمة، أي 1% فقط.

ومن الفروقات اللافتة أيضاً، تسلُّم الهيئة 251,944 وحدة من تركيا، وتسجيلها توزيع 705,177 وحدة، أي إنها وزعت 280% من المساعدات المستلمة. وفي المقابل، تسلّمت من باكستان 125,944 وحدة، ووزعت فقط 709 وحدات، أي 0.5%.

من جهة أخرى، جرى تسجيل الكثير من المساعدات في خانة التوزيع من دون أن تكون مسجلة في خانة الاستلام (حليب أطفال، بسكويت، ملابس، أكواب وعلب غير محدّدة النوعية...). ومع التدقيق في الأرقام، تطابق بعضها مع ما وزعته اللجنة، من دون «جزم أنها نفسها المسجلة لدى الهيئة»، على ما تقول «مبادرة غربال».

ومن الأمور الإشكالية أيضاً، اختلاف وحدات القياس بين الجهات المعنية، ففيما اعتمدت الهيئة الطن والقطع والكيلو، كانت لجنة الطوارئ الحكومية تسجل ما توزعه، في الغالب، بالصندوق. وهو ما يعيق إمكانية التدقيق في الكميات الموزعة. أما مجلس الجنوب، فبدا لافتاً في بياناته غياب الآلية الواضحة، بشكلٍ يستحيل معه التأكد من عدالة التوزيع.

في الختام، يجدر التأكيد أن الهدف ليس التصويب على الهيئة وحدها. لكنها، الطرف الذي تسلّم غالبية المساعدات، وكانت الأكثر «تخبيصاً»، وفقاً لبيانات الاستلام والتوزيع العائدة لها. أمّا الجهات الأخرى من لجنة الطوارئ الحكومية ومجلس الجنوب إلى الوزارات المعنية، فبدت أكثر انضباطاً، إما لأن كمية المساعدات التي كانت مسؤولة عنها لم تكن كبيرة، وإما لأن أخطاءها لم تكن فادحة، أو بسبب غياب الأرقام الدقيقة.

لكن، في جميع الأحوال، لا يمكن اعتبار ما سجّله تقرير «العدوان الإسرائيلي 2024: توزيع المساعدات الإنسانية تحت المجهر» مجرد هفوات، وإنما يُعتبر سوء إدارة مزمناً في المؤسسات الرسمية، يضيع معه ملف مهم كهذا في زواريب الهدر والفساد.

الدول المانحة الكبرى

أظهرت البيانات أن خمس جهات أساسية قدمت معظم المساعدات الإنسانية. إذ حلّت الإمارات في المرتبة الأولى، ومن ثم السعودية وتركيا، وفي المرتبة الرابعة المشتريات المباشرة (Purchase)، وفي المرتبة الخامسة باكستان.
يذكر أن النسبة الأكبر من هذه المساعدات كانت أدوية ومستلزمات طبية، ثم طعاماً ومآوي ومستلزمات نظافة.

2,806,744 وحدة

هي كمية المساعدات المستلمة، والتي وصل القسم الأكبر منها (931,490 وحدة)، في تشرين الأول، أي في ذروة الحرب

113 طائرة

هو عدد طائرات المساعدات الإنسانية، التي وصلت إلى لبنان، بين أيلول وتشرين الثاني 2024

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد