اوراق مختارة

غائبون أحياء ... وأحياء أموات

post-img

فراس رفعت زعيتر (صحيفة الديار)

في لبنان، حيث تُختبر القيم تحت النار وتُقاس المواقف بميزان الدم والكرامة، يصبح الإنسان مرهونًا لثباته لا لعمره، ولموقعه الأخلاقي لا لموقعه السياسي. فهنا لا يموت الذين يرحلون دفاعًا عن وطنهم، بل يتحولون إلى نبض ممتدّ في الوجدان العام، إلى حضور أقوى من أجسادهم، وإلى علامة فارقة في الضمير الوطني. وهنا أيضًا لا يعيش الذين يساومون، وإن تحركت في رئاتهم أنفاس. توجد فئة من الرجال، حين تغادر، تظل أكثر حضورًا من كثير من الذين يملأون الشاشات والمنابر اليوم. رجالٌ إذا وقفوا قالوا كلمة الحق ولو كلّفتهم حياتهم، وإذا واجهوا الضغوط لم ينحنوا، وإذا خُيّروا بين الوطن والريح اختاروا الوطن بلا تردد. هؤلاء تستمر حياتهم في عقول الناس لا بذكراهم فقط، بل بما قدّمته مواقفهم من معنى للحياة، معنى لا يستطيع الزمن أن يبدّده ولا العداوات أن تفتّته. يموت الجسد، لكن الموقف يعاند الموت، ويتحوّل إلى نور يدلّ على الطريق كلما حاول اليأس أن يثقل على اللبنانيين.

وفي المقابل، هناك من يعيش بيننا حياةً خالية من الحياة. أشخاص يتلونون مع كل موجة، يبدّلون خطابهم بحسب اتجاه الريح الخارجية، ويكتبون وينطقون بما يريده العدو من تحريض وفتنة وتمزيق للثقة الوطنية. يرفعون شعارات الحرية فيما هم أسرى مصالح صغيرة، ويتحدثون باسم الدولة فيما هم أدوات تُستخدم لتشويه وعي الناس وخدمة رواية الآخرين. هؤلاء أحياء بالمعنى البيولوجي، لكنهم أموات بالمعنى الوطني. يسيرون بين الناس، لكن لا قيمة لخطواتهم؛ يتحدثون كثيرًا، لكن كلامهم لا يُبنى عليه شيء. يسعون إلى الضوء، لكنهم يظلون ظلالًا باهتة، لأنهم فقدوا البوصلة الأخلاقية وفقدوا معها القدرة على ترك أثر.

لبنان اليوم يعيش لحظة دقيقة، لحظة يريد فيها العدو أن ينفذ عبر التناقضات الداخلية قبل الحدود، وأن يزرع الشك والفتنة قبل الصاروخ والاختراق. وفي هذه اللحظة يظهر الفارق الفاصل بين من يرى مصلحة الوطن أعلى من كل اعتبار، وبين من يقدّم حساباته الضيقة على حساب بلده. يظهر الفارق بين من يقول الحقيقة ولو كلّفته، وبين من يموّه الحقيقة ليخدم حامل السكين. الأولون، سواء بقوا بيننا أو رحلوا، يمنحون لبنان قدرة على النهوض والاشتداد، والآخرون، وإن علت أصواتهم، يزيدون هذا الوطن تعبًا وانقسامًا.

لهذا، يبقى المعيار الأخلاقي واضحًا مهما تعقدت المشهدية السياسية: من عاش لوطنه يبقى حيًا ولو غاب، ومن عاش لنفسه يموت وهو حاضر. فالحياة هنا ليست عدد سنوات، بل نوع موقف. والخلود ليس صفحات في كتاب، بل أثر يصمد في الوعي العام. وهؤلاء الذين اختاروا أن يكونوا أحياءً موتى، يظنون أن تبديل المواقف يُفقد الناس ذاكرتهم، وأن التحريض يُربك البوصلة، وأن السير في ركاب العدو سيمنحهم يومًا مكانًا في مشهدٍ ينهار. يظنون أن مشروعهم القائم على التشكيك والانقسام قد يفرض نفسه على وطنٍ صقلته التجارب بالصلابة. لكن الحقيقة أن الطريق الذي يسلكونه لا يؤدي إلا إلى العدم، وأن نهايته شبيهة بما قاله مظفّر النواب يوم صرخ في وجه الخيانة: "سنصبح نحن يهودَ التاريخ… نعوي في الصحراء بلا مأوى."

هذه ليست نبوءة لنا، بل لكم. فهذا هو الطريق الذي اخترتموه، وهذا هو المصير الذي يقود إليه موقفٌ بلا جذور ولا كرامة. أمّا لبنان، فله رجال ونساء يحمونه، وأحياءٌ في الغياب يضيئون دربه، وشعب يعرف جيدًا أن الخيانة لا مستقبل لها، وأن مشروع التفريط مهما ارتفع صراخه… فهو مشروعٌ ساقطٌ قبل أن يبدأ. وفي نهاية المطاف، سيظل لبنان ينهض على أكتاف الذين ثبتوا، وسيُمحى صدى الذين ارتضوا أن يكونوا مجرد صدى لغيرهم. فالتاريخ يعرف كيف يفرز: يرفع من عاش موقفًا يشبه لبنان، ويطوي من عاش موقفًا يشبه الفراغ. هكذا كان لبنان، وهكذا سيبقى: أحياءٌ في الغياب… وأمواتٌ في الحضور.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد